q

تابعنا خلال الأيام والساعات القريبة الماضية، المؤتمر الانتخابي للحزب الجمهوري في أمريكا، والذي انتهى بترشيح رجل الأعمال (دونالد ترامب) كمرشح عن الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة ضد مرشح الحزب الديمقراطي، والذي ستمثله كما هو متوقع وزيرة الخارجية في الحكومة الحالية، حكومة اوباما، ونعني بها (هيلاري كلنتون).

قدمت (ايفانكا) ابنة المرشَّح الجمهوري أباها ترام الى الجمهور الغفير في مؤتمر الحزب الجمهوري، وسبقت خطاب أبيها بخطاب حاولت من خلالها أن تقدم صورة ناصعة عن الأب عبر ذكرياتها والمواقف التربوية والاخلاقية والعملية التي حاولت من خلالها ايفانكا أن (تلمّع) شخصية أبيها، وتظهره أمام الحشد الجماهيري وللشعب الأمريكي، على أنه الانسان المثالي الذي يصلح لقيادة امريكا، كما نجح في قيادته عائلته وأعماله الاقتصادية الواسعة.

والظاهر أن ترامب فضَّل ابنته ايفانكا على زوجته التي يُقال أنها عندما قدمت زوجها ترامب للجمهور سابقا، كانت قد سرقت خطاب زوجة اوباما التي ألقته في خوضه الانتخابات الرئاسية السابقة، وأثار التشابه بين خطاب الزوجتين، لغطا شديدا في وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية المختلفة، فضلا عن جمهور الناخبين الأمريكيين أنفسهم.

بعد ذلك ارتقى (ترامب) المنصة أمام الحشد البشري من الحزب الجمهوري، وبدأ بإلقاء خطابه الذي يمكن من خلاله التكهّن بشخصية المرشّح القادم كرئيس لأمريكا، لقد بدا ترامب (متزمتا) وهو يلقي خطابه، وكانت نبرته شديدة وقاسية، كما أنه أفصح عن رؤية قوامها القوة قبل أي شيء آخر.

فمثلا كرر ترامب جملة (أمريكا الجديدة/ أمريكا العظيمة) كثيرا في خطابه، وتناول جوانب داخلية وخارجية تتوزع على السياسة والاقتصاد والتجارة، والارهاب والصحة وسواها، فقد قال ترامب فيما يتعلق بالمسلمين في امريكا، أنه سوف يحد من (الارهاب الاسلامي)، والحقيقة هناك تعبيرات كثيرة افضل من هذه الجملة التي اثارت استياء المسلمين في امريكا وخارجها، لأن الاسلام في جوهره يرفض الارهاب، ولا يصح أن نلصق الارهاب بالاسلام عنوة، أما اذا نقول هناك من يدّعي الانتساب الى الاسلام ويمارس الارهاب، فهذا أمر ممكن، مثلما يقوم بعض المسحيين بالانتماء الى داعش الارهابي والانضمام له كمحاربين.

من صنع داعش؟

ويمكن ان نجد التطرف والارهاب في امم وديانات عديدة، وليس من ينتمي الى الاسلام فقط، وهؤلاء المتطرفين الذين يعلنون انتماءهم للاسلام ويقومون بإرعاب الناس، لا يمثلون الاسلام الحقيقي ولا جوهره الانساني المعروف، لذلك كان لهذه الجملة التي ذكرها ترامب وقعها السلبي على المسلمين داخل امريكا وفي خارجها ايضا، وكان حري بالمرشح الجمهوري القادم والذي قد يصبح رئيسا لامريكا، أن يتنبّه لهذا الخلط الغريب فيما يتعلق بالمسلمين.

ولاحظنا ايضا أن ترامب شنّ هجوما قاسيا ومتواصلا على منافسه من الحزب الديمقراطي (هيلاري كلنتون)، لدرجة أنها قال عنها بأنها هي التي (صنعت داعش)، واتهمها بالفساد المالي والاقتصادي، وشن هجوما آخر على اوباما نفسه، وذلك عندما وصفه بالضعيف الذي اساء الى هيبة امريكا، ووصف برنامجه الذي يتعلق بالضمان الصحي للمواطن الامريكي بأنه تسبب بمشكلة صحية للامريكين، ووعد المواطن الامريكي بأنه سوف يتمكن من اختيار طبيبه بنفسه.

واصل ترامب هجومه وهو يستعرض جرائم القتل التي تعرض لها عدد من الشرطة في بعض الولايات الامريكية، وعرّج على الحادث الارهابي الذي طال المثليين، ووعدهم بالأمن والحرية، واتهم الادارة الماضية بأنها أساءت للنظام والقانون وأضعفته، وقال في حال فوزه فإنه سوف يركز على اعادة بناء دولة (النظام والقانون)، اقتصاديا اتهم ترامب منافسيه من الديمقراطيين بالجهل الاقتصادي وإلحاق الضرر بالشعب الامريكي عبر عمليات فاسدة.

على صعيد الخارج، اشاد ترامب باسرائيل، ووصفها بالحليف الأول في الشرق الاوسط، واتهم الادارة الماضية بالتسبب في صناعة الفوضى التي تعيشها منطقة الشرق الاوسط الآن، وضرب مثالا عن ذلك في في سوريا والعراق وليبيا ومصر وسواها، واشار في الوقت نفسه الى أن ايران سوف تستمر في برنامجها النووي وقد تصنع السلاح النووي، ومثل هذا التوقع كما نفهم، يجعل من دونالد ترامب غير واثق مما ابرمته ادارة اوباما حول الملف النووي الايراني.

وفي هذا المجال تبرز مشكلة خطيرة، إن أبسط تحليل لرؤية ترامب حول الملف النووي الايراني، يؤكد أن ترامب في حالة فوزه برئاسة امريكا، قد يقوم بتقويض هذا الاتفاق، وهذا الفعل سوف يعيد التوتر الى قلب الشرق الاوسط، بعد أن تحقق شيء من الانفراج، وانتشرت معالم الأمل بشيء من التوازن والهدوء في منطقة حساسة وساخنة من العالم.

وقال ترامب انه سوف يلحق الهزيمة بداعش بسرعة، ولكنه في الوقت نفسه يتهم الجميع بالضعف والتقصير، خاصة في القضايا التي يعتقد بأنها ألحقت ضررا بمكانة امريكا عالميا وهو يقارن امريكا مع الصين وغيرها مثلا.

وعود في ذمة المستقبل

في الخلاصة أعطى خطاب ترامب في الليلة الماضية وهو يخاطب جمهوره في مؤتمر الحزب الجمهوري، أعطى انطباعا عن نرجسية ترامب العالية، فهو يبدو متعلقا بذاته، ومحبا لنفسه، ويظهر ذلك من خلال تكرار (للقوة، وامريكا الجديدة) وتأكيده على النجاح الشخصي الذي حققه في جميع الميادين التي يكون له حضور فيها، هذا النفس النرجسي بدا واضحا في شخصية المرشح الجمهوري، الذي كانت ملامح وجهه تشي بأنه يتحلى بدرجة نرجسية عالية، قد تتسبب في مشكلات كبيرة لأمريكا والعالم.

لم ينس ترامب أن يعزف على وتر المصالح الفردية للمواطن الامريكي، قمما قاله مثلا، أنه سوف يوفر ملايين الوظائف للشعب الامريكي، وهذا لا يمكن معرفته إلا بعد التجربة الفعلية، كذلك لم ينس ترامب (المحاربين القدماء) وتحسين اوضاعهم ورواتبهم، وقد وصفهم بالمقاتلين العظماء، وقد استند خطابه الى هذا النوع من التعهدات التي لا يمكن معرفة درجة تحققها إلا بعد حصول التجربة الفعلية لقيادة امريكا.

وعلى العموم، ينبئ خطاب دونالد ترامب، بأن امريكا مقبلة على مرحلة جديدة فعلا، ليس امريكا وحدها بل العالم كله، وسوف تنتهي مرحلة التوازن والهدوء التي خلقتها ادارة اوباما، لأن ترامب لا يرى فيها مرحلة تهدئة وتوازن واللجوء الى (القيادة من الخلف) او استخدام اسلوب (القوة الناعمة)، بل يراها ترامب دلائل واضحة على ضعف امريكا مقابل قوة المنافسين لها، وهذا يعني ببساطة أننا مقبلون على مرحلة جديدة من التوتر.

بدت شخصية ترامب حازمة، نرجسية، لا تعترف إلا بمنطق القوة، كما لاحظنا او خمّنا ذلك، خاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية المقبلة لأمريكا، أما ما يتعلق بالسياسة الداخلية، فإن التشدد الأمني، وبناء جدار ضد المهاجرين، ورفع شعار (امريكا الجديدة) بالتوازي مع شعار دولة (النظام والقانون)، فهذه كلها مؤشرات على مرحلة الحزم الجديد الذي يمثل نهجا قياديا للرئيس الامريكي القادم في حالة فوزه.

واذا كان هذا النوع من الحزم مجديا في الداخل الأمريكي، فإنه سوف يكون عاملا على نشر القلق في خارج امريكا، فمثلا إعلان التحالف مع اسرائيل كحليف أوحد واقوى، يؤكد انطلاق مرحلة جديدة تكرس سياسة التعنت الاسرائيلي وتكرس سياسة الاستيطان، وتنسف أي أمل في الحل الفائم على الدولتين المتجاورتين، وهذا يعني تراجع فرص السلام الى درجة الصفر.

وهكذا سوف تجرب امريكا والعالم خليطا من النرجسية وحب الذات والتعنت والتعصب، واعتماد مبدأ القوة خصوصا في السياسة الخارجية، وذلك بصعود ترامب الى البيت الأبيض، واذا حدث ذلك فعلا، فربما نكون أمام عالم جديد قوامه الصراع بدلا من التنافس، والتذبذب بدلا من الاستقرار.

اضف تعليق