q

أعزائي المسافرين.. الرجاء التوجه إلى البوابة رقم ١٤ المتوجهة إلى دمشق ..

- آهٍ لا أصدقُ إلى ما اسمعه.. لم يبقَ سوى سُويعات.. وتُحلق روحي في السماء الزرقاء.. لـِ تحظى برؤية قبة المعشوقة.. ولم يبقَ سوى ممرٍ قصير أمرُ فيهِ لأصل إليها ..

الحمد لله والشكر لله.. ما أحلى هذا النداء الذي يُرشدني إلى طريق المعشوقة.. ويُرشدني إلى بوابة بداية رحلتي.. ها أنا وروحي نُحلق في السماء الزرقاء.. وأشعرُ بفرحة تملأ قلبي ..

(نداء: الرجاء ربط الأحزمة.. ستهبط الطائرة في مطار دمشق).

حان الوقت لتهبط روحي في أرض دمشق.. أعني حان الوقت لتهبط في أرض المعشوقة.. وقصرت المسافة.. واقترب وقت اللقاء.. انتظري يا روحي لا ترحلي قبلي.. عيني أيضاً مشتاقة.. فإنكِ كُنتِ تذهبين لها وتنسيني.. امهليني أرجوكِ في هذه المرة.. فٓـ كلانا مشتاقين لها..

ها هي اللوحة التي تخبرني بأنني اقتربتُ من المنطقة الجميلة.. يا الله.. اقتربنا اقتربنا.. لا أدري أأبكي أم أفرح.. أأنا احلم!!.. أم ما أراهُ حقيقة!!.. ها هي قبة معشوقتي الجميلة الرائعة.. اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم.. يَا زَيِنَبّ يَا زَيِنَبّ..

ها أنا قد وصلتُ إليكِ سيدتي.. فاستقبليني أيتُها الحنونة.. استقبليني فإنني رجعتُ إليكِ بعد سنوات طويلة.. بعد ما قضيتها في البكاء والنحيب.. كم اشتقتُ إليكِ وإلى منطقتكِ وحرمكِ وقبتكِ ..وصلت الفندق.. سأُجهز نفسي للزيارة.. ثم أذهب إلى الحرم الشريف.. أذهب للقاء المعشوقة ..

اغتسلت.. وارتديت الثياب.. وجهزت نفسي للقاء ..مرّ بعض الوقت .. وإذا بي أرى القبة الشامخة.. رأيتُ نفسي في الصحن الشريف ..ها أنا الآن في صحنها المبارك.. يا الله.. يَا زَيِنَبّ ها أنا في جانبكِ الآن.. فافتحي أحضانكِ لي.. وأروي عطش شوقي لكِ..

صدقيني لا أريدُ أن أرجع إلى بلدي ثانيةً.. أخشى بأن تطول مدة غيابي عنكِ مرةٌ أُخرى.. يَا زَيِنَبّ.. يا الله.. لم أُصدق بأنني قد وصلت.. وأنني في الصحن ..سأسجد سجدة شكر لله على وصولي إلى هُنا.. بعد غياب طويل.

الحمدُ والشكرُ لك يا ربي.. بأنك وفقتني لزيارتها قبل مماتي ..

آه.. لا أريدُ أن أدخل الآن يا سيدتي.. أعذريني.. دعيني أرى قبتكِ وأسرح في جمالها ..

يا عيني توقفي عن البكاء.. يا قلبي توقف عن الحزن.. دعوني أصبح كالطفل الذي لا يعرفُ البكاء إلا عندما يجوع أو يعطش أو يتألم من عضو من أعضاء جسده.. دعوني أفرح وأرى الدنيا وردية ..

آهٍ يَا زَينَب ما أحلى قبتكِ التي طالما بكيتُ شوقاً لرؤيتها ..

الآن سأدخل ..فلأستأذن بالدخول إليها ..

- أَ اأدْخُلُ يا رَسُولَ اللهِ، أَ أدْخُلُ يا حُجَّةَ اللهِ أَ أدْخُلُ يا مَلائِكَةَ اللهِ الْمُقَرَّبينَ الْمُقيمينَ في هذَا الْمَشْهَدِ، فَأذَنْ لي يا مَوْلايَ في الدُّخُولِ أفْضَلَ ما أذِنْتَ لِأحَد مِنْ أوْلِيائِكَ، فَإنْ لَمْ أكُنْ أهْلاً لِذلِكَ فَأنْتَ أهل لِذلِكَ.

جرت دموعي على خدي.. ذٰلك السيد الجليل.. قال بما معناه: إن دمعت عينك فاعلم بأن المعصوم قد أذن لك بالدخول ..فالحمد لله ..

سيدتي ومولاتي وحبيبةَ قلبي أذنت لي بالدخول ..كأنها سيدتي فتحت أحضانها لي ..

مشيتُ بكل هدوء ووقار.. أشعر بيديّ ترتجفان ..ها هي خطواتي تتقدم وتساعدني إلى الوصول ..

يا زينب ها أنا الآن بالقرب من ضريحكِ الـمُبارك.. لا أصدق عيني بما أراهُ الآن ..

إن كان هذا حلم.. فلا أُريدُ أن استيقظ منهُ.. وإن كانت هذه حقيقة.. فلا أُريدُ أن أخرج من حرمكِ يَا زَيِنَب.. يا أول عشق وأول شوق ملأ قلبي ..

جعلتُ يديّ تلمسان الضريح.. وأسندتُ رأسي عليه.. جرت دموعي من جديد.. لكِ الحق بأن تبكي أيتُها العين.. أعلم بأنكِ لا تصدقين ما ترينهُ الآن ..ولكنني !! ..

أقولُ لِعيني: لماذا هذه الدموع؟.. ها أنتِ ترين ضريحها.. توقفي أيتُها الدموع.. ها هو الضريح ترينهُ أمامك.. توقفي من العبرات.. لكي ترِي الضريح بوضوح ..

سقطتُ على الأرض بقوة.. من شدة بكائي ..

- آهٍ يَا زَيِنَبّ لقد أطلتِ عليّ في ندائك لي.. كم اشتقتُ لكِ مولاتي أيتها العزيزة ..

سيدتي.. لقد كان شوقي إليكِ كالليل الذي طال عليه النهار.. وطال عطشي لِضريحكِ.. ولم أرَ موسم الربيع .. لقد جفت دموعي في السنوات الأخيرة .. وينزل ما تبقى منها ..

سيدتي إن حضرتكِ واحةٌ.. وكنتُ في بر جاف ..

مولاتي إن استطعتُ أن أربط رجلي في ضريحكِ فقد فعلتُ.. أو أن أتشرف وأخدم في حرمك فهذا شرفٌ لي.. ولكن لا أريد أن أخرج من حرمكِ.. فإنكِ طعامي ومشربي.. اجعليني بـِجانبكِ يا ملكة فؤادي ..

السلامُ عليكِ سيدتي.. سلامٌ عليكِ من قلبٍ مشتاقٌ لكِ.. سلامٌ عليكِ من قلبٍ عاش الحزن منذ ما أن ابتعدتُ عنكِ.. سلامٌ عليكِ من قلبٍ يُريدُ أن يواسيكِ في مصائبكِ ويبكي عليكِ ..

وعلى أنين الثكلى.. حملتني قدماي جَبرًا وغصبًا.. ويداي ما فارقت فولاذها العظيم.. وطفت طواف الدمع النازف.. وبلوعةٍ اناديها :

آهٍ يَا زَيِنَبّ.. ساعد الله قلبكِ الذي تَجرعَ كأس المصائب المرة ..

لعن الله الدهر الذي خانَ بكِ.. ولم يعرف قدركِ ..

جعلتُ أمشي نحو رأسها المتجه للقبلة ويدي لم تفارق ذٰلك الفولاذ العظيم .. ودموعي تنهمر على خدي ..

تخيلتُ عينيها الشريفتين التي رأت المصائب المصبوبة عليها منذ صغر سنها ..

لكن!.. أيُ المصائب التي أتذكرها!!.. أأذكر مصاب فقدها لِجدُها منذ صغرها!!.. أم مصاب ضلع أمها الذي كُسر وراء الباب!!.. أم مصاب تلك الطبرة التي ضَرَبَها أشقى الأشقياء!! .. الضربة التي هُدمت أركان الهدى.. أم مصاب الكبد التي رأتها في (الطشت) تغلي من حرارة السم.. أم مجمع المصائب التي نزلت عليها في كربلاء الحسين عليه السلام كسقوط الأمطار.. تنزل مصائب تلوى الأُخرى ..

تخيلتُ شعرها الذي شاب همًا.. أصبح أبيضاٌ من المصائب المحرقة للقلوب ..تخيلتُ عينها التي رأت فيها المصائب ما رآها أحدٌ قط مثلما رأتها مولاتي ..لسانها الطاهر.. الذي هزٓ عرش الطغاة.. خطب خُطبتها فجعلت أعدائها أذلاء.. أخرج منهُ هذه الكلمات التي لازال صداها إلى الآن ..

"فكد كيدك وأسعَ سعيك فوالله لن تمحوا ذكرنا ولا تُميتُ وحينا" ..

تلك الإذن.. ومنها سمعت سب وشتم أبيها أمير المؤمنين عليه السلام أثناء سبيها القاسي ..

ذهبت ودموعي على خدي.. أخطو خطوات الثكلى.. إلى يديها التي حملت جسد عزيزها وأخيها.. وقالت: اللهم تقبل هذا القربان ..

ذهبت إلى رجليها.. روحي لِتُراب قدامها الفداء.. آه ثم آهٍ على رجليها التي بها قطعت من بلد إلى بلد وهي في حالة الحُزُن والثكول على مصاب حبيبها الحُسين.. بها أصبحت سبيه بعد ما كانت أميرة ..

آهٍ على جسدكِ الطاهر الذي ركب على بعير هزيل وبغير وطاء ..يا جبل الصبر الذي رأى كل هذه العواصف والزلازل والبراكين.. ولم يُهدم.. بل لم يحدث لهُ أية تعرية.. أمام كل هذه المصائب ..

هدأت عيناي من البكاء.. ولكن لازال قلبي يبكي.. ولا يُريدُ الخروج من هذه الجنة.. لكن الدهر أعتاد بأن يُفرق الأحبة ..

أودعكِ يا نظر عيني سيدتي.. أودعكِ يا روحي التي بين جنبي ..

جعلتُ أسير نحو الباب غصباً.. وعيناني تلتفت.. تنظر إلى الخلف.. إلى ضريحها ..حتى وصلتُ إلى صحنها .. فرأيتُ القبة العجيبة ..

- يَا زَيِنَب أيتها الحبيبة.. لا أُريدُ أن أودعكِ ..

ولكن أقولُ لكِ :

العودة ثم العودة ثم العودة في وقت قريب ..لم يرتوِ عطش قلبي بعد ..

سيظلُ قلبي عند ضريحكِ ..يداي مترددتان في السلام لها ..

أحنيت جسمي لها ..في أمان الله .. في وداعة الله ..

آهٍ يا زَينَب.

اضف تعليق