q

في عالم ما بعد الحداثة تمثل وسائل الاعلام الركيزة الاساسية لتوعية الجمهور بما يدور حولة وتوضح له المسارات التي يجب ان تصل فيه الى بر النجاح واثبات الذات في عالم تكون السطوة لمن يملك ويسيطر على اكبر قدر من المعلومات.

الحديث عن وسائل الاعلام ودورها في المجتمع طويل وغامض احيانا الا اننا لا نبحث في هذا المقال لا بموضوعاته الطويلة ولا بغموضه؛ بل بجزئية بسيطة جدا تفتقدها وسائل الاعلام العراقية وهي غياب التخطيط و"التوجيه" اللازم للموضوعات الاعلامية (وقد يعترض البعض على كلمة التوجيه لكن كل وسيلة اعلامية تعبر عن ايدلوجية معينة او مجتمع ما وبالتالي فإنها موجه ومنحازة حتما وهذا ليس عيبا).

الارهاب هو البضاعة الاكثر تداولا في وسائل الاعلام العالمية والمحلية لما تحتويه هذه البضاعة الدموية من قيم الصراع الضخامة والاهتمامات الانسانية وغيرها من القيم الاخبارية، وبالتالي فان كيفية ادارة هذا الموضوع والتخطيط له لا بد وان يكون في صلب اهتمامات من يتربعون على ادارات المؤسسات الاعلامية الوطنية، وبما اننا من اكثر الدول التي تعاني من ظلمات الارهاب فلا بد ان تعالج كل الموضوعات التي تتعلق بهذا الموضوع بدقة فائقة، الا ان الواقع مختلف تماما فموضوعات الارهاب في الفضائيات العراقية لا تتعدى كونها اخبارا يتم نسخها من وكالات الانباء العالمية دون التدقيق في شوائبها ونقصد هنا المصطلحات المستخدمة فيها وهي التي تأثر بشكل فعلي في ترسيخ الصورة عن الارهاب ومن يعاني منه ايجابا او سلبا او حيادا.

يقول استاذ الاعلام الدكتور اديب خضور في كتابه " الاعلام والارهاب" ان اللغة التي تعالج بها وسائل الإعلام موضوعات الإرهاب والمنظمات الإرهابية لها اثر كبير في الحد من قوة الرسائل الارهابية او تضخيمها؛ كونها ترسم معالم الخطاب السائد لدى الرأي العام, فالإرهابيون يحاولون فرض لغتهم ومصطلحاتهم على وسائل الإعلام بحيث تصبح مناسبة للاستخدام في حديث الناس، فيما تحاول الجهات المعنية بمحاربة الإرهاب فرض تعابير ومصطلحات الأجهزة الحكومية. وإذا ما استخدمت وسائل الإعلام تعابير ومصطلحات الإرهابيين, فإنها تُسهم بتحويلها إلى طريقة مقبولة للتعبير عن تلك الانشطة. وهذا يعد جزءاً مهما من الحرب النفسية للجماعات الإرهابية, إذ تعد حرب المصطلحات أحدى أهم ملامح الحرب النفسية المعاصرة بغية التأثير في الرأي العام, وخلق حالة من التكييف مع هذه المصطلحات.

ونتيجةً لأهمية الرموز في الرسالة الاتصالية اشار احد الابحاث حول دور الاطار الإعلامي بالتأثير في القرارات، فقد اعتمد في تجربته العلمية على أثر الاختلافات في المعالجة الإعلامية والاختلاف في رموز الاتصال باتخاذ القرار النهائي للمشاهدين ، وانتهى إلى وجود علاقة ارتباط قوية بين الاسلوب الذي يقدم عن طريقه الحدث الإرهابي, والآثار المترتبة عليه وبين قبول الجمهور أو رفضهم.

هذه ادلة بسيطة حول اهمية الرموز الاعلامية في مواجهة الارهاب او حتى التسويق لـ"مظلومية" ضحايا الاعتداءات الارهابية، وما يثيرنا في مؤسساتنا الاعلامية هو غياب التخطيط كما اشرنا في بداية المقال، فحينما يقع اعتداء ارهابي يذهب ضحيته مئات الشهداء والجرحى من المدنيين حصرا ومن لا ذنب لهم سوى لانهم كانوا في المكان الذي يود فيه الارهابي ان يفرغ حقده الذي زرعته في دماغه فتاوى لا تعرف من الرحمة شيء، وفي وضع كهذا نجد ان اغلب المؤسسات الاعلامية تصف التفجير الارهابي بـ"الحادث"، حتى تجدنا نقف حيرى بين البكاء على الشهداء والجرحى ام على من يقلل من شان القضية سواء كان قاصدا ام جاهلا.

في احدث واكبر اعتداء ارهابي في العراق وصفته بعض وسائل الاعلام بالحادث وفي اكثر من مرة لتبين انه ليس خطئا عابرا بل مشكلة في فهم القضية، وتسرب هذا الخطاب الاعلامي الى مواقع التواصل الاجتماعي التي احتفت بالشهداء ونددت بالمجزرة تحت هاشتاقات ابرزها كان باسم #تفجير_الكرادة.

هناك فرق بين الاعتداء والحادث، فالأول اي الاعتداء يعني وفق قاموس المعاني "تهجُّم ظالم على شخص بالضَّرب أو غيره" او هو "تهجُّم على الآخرين رغبة في السيطرة". وفيما يتعلق بمفهوم الحادث فوفق موسوعة ويكيبيديا : "بصفة عامة اي واقعة او حدث غير مخطط له مسبقاً يقع نتيجة لظروف غير سليمة و يتسبب في وقوع عطل او حدوث خسارة".

الفرق واضح اذن بين المصطلحين وبالتالي فعندما نقول اعتداء الكرادة او اعتداء مدينة الصدر فالمصطلح بحمله معنى الادانة في حين ان كلمة "الحادث" تشير الى خلل لا يفهم معناه الا في حال التأكد من طرفي ذلك الحادث، وبما ان جمهور وسائل الاعلام يحب البضاعة الجاهزة ولا يود البحث عن المسببات فالأمر الاكيد ان الرسالة الاعلامية بإدانة الارهاب او تضمين الادانة في الرسالة الاعلامية سوف لن تصل او لن تترسخ في اذهان الجمهور، ولا نفترض في هذا الجمهور ان يكون عراقيا فقط بل الجمهور الذي لا يعرف عن العراق الا من خلال وسائل الاعلام سواء العربي او حتى الغربي.

لو لاحظنا وسائل الاعلام الغربية التي تؤكد دوما بانها لا تضيف الخبر اكثر مما يمثله الواقع وهي عبارة مظللة طبعا؛ نجدها تصف الهجمات الارهابي التي تحصل في بلدانها بـ"الاعتداءات"، ولو عدنا بالذاكرة قليلا ستظهر ملفات خاصة تحمل اسم "اعتداءات باريس" و " اعتداء سان برناردينو" واخرها "اعتداء نيس" وهذا يسهم كثيرا في اعطاء فكرة الادانة لمنفذ الهجوم ورفض المؤسسة الاعلامية لتلك الهجمات الارهابية.

مشكلة وسائل الاعلام في الدول النامية والمنظومة العراقية ليست استثناء منها؛ هي التبعية للمؤسسات الغربية وهي لا تستورد منها المعدات التقنية فحسب بل تستورد الافكار ايضا التي هي جوهر الاعلام، حتى ان الكثير من المؤسسات الاعلامية في الدول النامية اصبحت وكأنها مراكز ترويج لما ينشر في وكالات الانباء الكبرى التي تسيطر على اكثر من 80% من المحتوى الاعلامي العالمي.

وكالات الانباء الكبرى التي لا يتجاوز عددها الخمس وكالات (رويترز البريطانية، وكالة الصحافة الفرنسية، وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، وكالة يونايتد برس انترناشيونال الأمريكية، ووكالة تاس الروسية)، هذه الوكالات هي التي تحدد اطلاق التسميات التي تحمل الادانة او الحياد وبالتالي هي من تحدد (الاعتداء من الحادث) و (الارهابي من الثائر) و (المليشياوي من صاحب القضية) وكل ذلك كان نتيجة التبعية العمياء وانزواء الاعلام الوطني في التركيز على صراعاته الحزبية وتهافته على تدقيق كل خبر هل يحمل صفة الفخامة او السيادة او دولة الرئيس اما القضايا الكبرى فلا داعي للتفكير بها وقد اوكلت مهمتها لوسائل الاعلام العالمية.

اضف تعليق