q

في مقال سابق نشره مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء حمل عنوان "الأبعاد الأمنية والسياسية لتحرير الفلوجة" تطرقنا فيه لجملة أمور كان أبرزها: "إن التفجيرات لن تتوقف عكس ما سوّق له البعض بأن تحرير الفلوجة هو نهاية الإرهاب أو نهاية تهديد العاصمة بغداد". لذلك، وعلى الرغم من البعد الاستراتيجي والأمني والمعنوي لتحرير الفلوجة إلا أنها ساهمت بجزء بسيط في إبعاد الخطر عن العاصمة، وأكبر دليل ما حصل مؤخراً من تفجير استهدف منطقة الكرادة في قلب العاصمة بغداد، أهم مدنها من حيث مجاورتها للمنطقة المحصنة "الخضراء"، كما أنها تمثل العصب التجاري للعراق، فضلاً عن سكن كثير من المسؤولين فيها، كما أنها تضم مجموعة من الأماكن الترفيهية والتي غالباً ما يتوجه إليها الكثير من المواطنين وغالبيتهم من الشباب. إلا أنها وعلى الرغم من تلك الأهمية، فقد تم استهدافها لمرات عدة، ولكن الانفجار الأخير يُعد الأعنف على المستوى المحلي والدولي من حيث قوته وأعداد الضحايا. وبحسب بعض الإحصاءات، فإن هذا الكم الهائل من الأعداد والذي تجاوز الـ300 شهيد ومثلهم جرحى وبتفجير واحد، هو الأعنف منذ 2007. ووفقا لشهود عيان، فإن التفجير قد استخدمت فيه مواد شديدة الانفلاق والاحتراق، بحيث احرق المجمع بكل مفاصله، وكذلك المحال المجاورة، وهذا يبعث بتساؤلات عدة عن الأسلوب؟ الطريقة؟ التخطيط؟ نوعية المواد؟ الجهات الداعمة؟ موقف الأجهزة الأمنية؟

وللإجابة عن التساؤلات أعلاه، يمكن القول أن هناك أربعة أطراف تقف وراء التفجير، هي على وجه التحديد:

الطرف الأول: دول جوار العراق كافة

يبدو أن صدمة التغيير السياسي في عام 2003 ما تزال مؤثراتها تدق دول الجوار وتحرك بأوراقها أينما شاءت وفق مصالحها وعلى النحو الآتي:

1- سوريا: ساهمت سوريا وبشكل كبير في السماح بعبور المجاميع الارهابية عبر حدودها وغض النظر عنها، والسبب يكمن في محاولة منها لإبعاد الأنظار عنها وعن سياستها، وتقديم أدلة على فشل المشروع الأمريكي في العراق. وكان هؤلاء الارهابيون يدخلون بعناوين مقاومة المحتل، متناسين أن الجولان لا زالت تحت سيطرة اسرائيل، والأدلة كثيرة، منها ما أعلنت عنه الحكومة العراقية من أنها ألقت القبض على بعض الضباط السوريين. كما إن الحكومة رفعت دعوى للأمم المتحدة تطالبها بكبح التدخل السوري وإيقاف دخول الارهابيين العرب عبر أراضيها وذلك بعد تفجيرات 2007 الدامية، والتي اتهمت فيها جهات سورية، حيث إن العملية تم التخطيط لها في مدينة اللاذقية، والتي كانت تضم معسكرات تدريب الإرهابيين حتى يتم إرسالهم إلى العراق، لكن الموقف تغير وأصبحت سوريا حليفة!!.

2- ايران: على الرغم من الدعم الايراني الذي قدّم للعراق، حيث كانت من أوائل الدول التي دعمت العملية السياسية، كما وإنها من أوائل من ساند العراق في حربه ضد تنظيم "داعش" الارهابي، إلا أنها – في نهاية المطاف - تبحث عن مصالحها في الدرجة الأساس، وهذا ليس عيباً، ولكن العيب أن تدعم جهة على حساب أخرى أو تدعم بعض المتهمين بالفساد أو تؤجج الفتنة الطائفية، وهذه كلها تراكمات ساهمت بتدهور الأوضاع.

3- السعودية: مشكلة السعودية أنها لم تقتنع بأن الوضع في العراق قد تغير وأصبح هناك دولة وانتخابات. وعلى الرغم من كل الإخفاقات، إلا أن مسار التحول الديمقراطي بدأت ملامحه، لذلك لم تستوعب الأمر ولم تعترف بالعملية السياسية في العراق، كما وأنها ساهمت بتمويل بعض الجماعات الارهابية وسمحت بعبور الآلاف منها إلى العراق، ناهيك عن سماحها بعبور ملايين الدولارات كتبرعات من كثير من السعوديين لجماعات عراقية غالبيتها مرتبطة بالإرهاب. والعامل الآخر، هو تصديرها للفكر التكفيري علانية، وذلك عبر خطبائها ورجال دينها. والسبب الأول والأخير، هو أن رأس الحكومة من المذهب الشيعي، وهذا لا يتناسب مع سياستها، ويظهر ذلك عبر مئات المواقف المعادية أو غير الداعمة التي اتخذتها المملكة اتجاه لعراق. وحتى فتحها للسفارة في العراق قبل عام لم يكن من محض إرادتها، وإنما بضغط أمريكي. كما وأن سفيرها كثيراً ما تصدر منه تصريحات وصفت بأنها غير مهنية، وعدّت تدخلاً بالشأن الداخلي وخارج نطاق السياق الدبلوماسي.

3- تركيا: الموقف التركي يشهد تناقضاً. فالأتراك يعلنون دعمهم للعراق، ويساهمون بتأجيج بعض المواقف الطائفية، أو يرعون مؤتمرات غالباً ما تحضرها شخصيات مطلوبة إلى القضاء العراقي، كما وإنهم يتدخلون بصورة مباشرة في كثير من القضايا: منها المسألة الكردية والموقف من كركوك ودعم بعض الفصائل السنية فضلاً عن شبهات حول دورها بسقوط مدينة الموصل وكذلك تدخلها العسكري المباشر مؤخراً على حدود مدينة الموصل.

4- الأردن: على الرغم من كافة التسهيلات التي يقدمها العراق إلى لأردن في جوانب مختلفة ولا سيما الاقتصادية منها، إلا أنها لا تزال تحتفظ بكبار قادة البعث المتهمين بإبادة الشعب العراقي، وترعى مؤتمرات لشخصيات متورطة أو متهمة بالإرهاب، فضلاً عن دعمها لبعض العشائر السنية غير المنخرطة في منظومة الدولة.

5- الكويت: صحيح أنها من أوائل الدولة العربية التي اعترفت بالعملية السياسية، إلا أنها لا تزال تحمل بعض الأحقاد المترتبة على اجتياح العراق لها في التسعينات، كما وأنها لا تزال مصدراً لتمويل بعض الجهات، وكذلك لها تدخلات سياسية في بعض مدن جنوب العراق.

الطرف الثاني: الأجهزة الأمنية العراقية

لم يكن كلام السيد وزير الداخلية المستقيل عن التداخل وضعف الأجهزة الأمنية جديدا. فهذه المشاكل صاحبت التغيير السياسي ولحد اللحظة لم تعالج، ومن أبرزها: تعدد الأجهزة الأمنية وضياع الحل. فعمليات بغداد بواد والداخلية بواد والدفاع هي الأخرى بواد وكذلك الحال مع المخابرات والأمن الوطني. وعند حصول أي خرق أمني لم نخرج إلا بمحصلة رمي التهم والتنصل من المسؤولية، فيما أرواح الأبرياء تذهب هباءًا، وإلا هل من المعقول -وحسب ادّعاء السيد الغبان- أن السيارة المفخخة قد خرجت من محافظة ديالى؟، أيعقل مرورها بكل هذه السيطرات ولم يعلم بها أحد؟. هذه كارثة أمنية بمعنى الكلمة، والجميع يعرف أن أجهزة كشف المتفجرات فاشلة، بدليل أن بريطانيا حاكمت من ورّدها للعراق، فيما لا تزال تُستعمل في السيطرات كافة.

الأمر الآخر، متى يعلم صانع القرار الأمني أن الحل إنما هو حل استخباراتي؛ لأن العدو ذكي ويعرف الخطط الأمنية بكل تفاصيلها، كما وأنه يعرف كل الطرق الفرعية ويعتمد بشكل أساس على خلاياه النائمة في بعض مناطق العاصمة. أيضاً الأمن الوطني وضياع الدور في مراقبة وتتبع المطلوبين والداعمين والتنصت على أجهزتهم وما سواها من أساليب معروفة عالمياً. وبالنسبة للأجهزة الاستخبارية والمخابراتية فهي طامة كبرى. ففي الوقت الذي يكمن سر نجاح هذه الأجهزة بتخفّيها وسريّتها وتجنيد العناصر بمختلف القواطع والمسؤوليات والدوائر إلا في العراق!!! فكثيراً ما يتباهى بعضهم بانتمائهم إلى تلك الأجهزة بصورة علنية، وبالتالي ضياع الهدف الأساس الذي وجدوا من أجله في الاستقصاء عن المعلومة؟!!.

وبالنسبة للأجهزة الساندة، كالدفاع المدني وما سواها، فهي غالباً ما تأتي في الوقت الذي يكون فيه موقع الحادث قد أخمدت نيرانه وتم إجلاء جرحاه، كما وأنها تفتقد إلى الأساليب العصرية في إخماد الحرائق وإجلاء الجرحى، كالطائرات وفتح منافذ جانبية واستخدام الأجهزة الحديثة. أما الأجهزة المختصة بكشف الدلالة ومعرفة أسباب ونوعية وكمية المتفجرات، فغالباً ما تتلاشى الأدلة لديها؛ بسبب الطريقة الخاطئة المستعملة، فضلاً عن الفوضى التي تعم عقب الحادث، من آليات الإطفاء وغسل موقع الجريمة وصعوبة السيطرة على تواجد المواطنين، مما يؤدي إلى تلاشي معظم الأدلة وعدم الاستفادة منها. هذه الأمور وغيرها تمثل قصورا واضحا من كل القائمين على تلك الأجهزة، وسوف تبقى على حالها ما لم يتم التنبه لها ومعالجة الإخفاق في أقرب فرصة.

الطرف الثالث: الإهمال والتقصير الحكومي والبرلماني والقضائي

يبدو أن نقمة المحاصصة قد كتبت آثارها السلبية على جبين العراقيين. ولسوء قدرهم، فإنها تكون حاضرة في كل إخفاق أمني أو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وذلك بعد أن أصبحت سلوكا وممارسة لدى الحكومات المتعاقبة وفي كل مفاصلها. فالجانب الحكومي يكاد يغرق بمنظومة فساد في مختلف المستويات، وأصعبها الفساد الأمني، لارتباطه المباشر بحياة المواطن، الذي يتساءل: أين يكمن الحل الأمني بعد أن هدرت كل هذه المليارات؟!، وبالتالي يصدر قرار بسحب أجهزة كشف المتفجرات لعدم صلاحيتها!!. في هذه الحالة من يتحمل مسؤولية تلك الدماء؟.

أيضاً: متى تلتفت الحكومة التفاتة جادة لمعالجة الملف الأمني والاستعانة بالتكنولوجيا المعاصرة لذلك؟، ومتى يتم إبعاد الأجهزة الأمنية عن المحاصصة المقيتة ويتم اللجوء إلى المهنية في العمل الأمني؟. بالنسبة للسلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان، الذي يمكن تسميته بأدق تسمية له "برلمان الأزمات"، فهو ما أن يخرج من أزمة إلا ويدخل في غيرها، في الوقت الذي ما تزال أغلب المشاريع المهمة معطلة، فضلاً عن ضعف دوره الرقابي في محاسبة المسؤولين عن كافة الإخفاقات وأبرزها الأمنية. أما القضاء، فإن عمله لا يتلاءم مع حجم الكارثة السياسية والأمنية واستشراء الفساد في مفاصل الدولة، كما إن تأخره في حسم ملفات محاكمة الارهابيين تساهم في تنامي مخاطره في العراق.

الطرف الرابع: الخطاب الديني والسياسي المتطرف

نستنتج ذلك من خطاب البعض سواءًا ممن يحسبون على رجال الدين أم من بعض السياسيين. فالسياسيون كأنهم يمثلون الجناح السياسي لتنظيم "داعش" الارهابي، وذلك عبر دفاعهم بطرق ملتوية عن ممارسات التنظيم، أو من خلال كشفهم للخطط العسكرية قبل البدء بها، أو عرقلتهم لاعتقال مطلوبين بتهم الارهاب، أو بواسطة إيصال أموال للتنظيم، والأخطر من ذلك إيصال صورة خاطئة عما يحدث داخل العراق وقلب الحقائق للعامل الدولي، ورعاية مؤتمرات تدعم الارهاب علناً. أما الخطاب الديني المتطرف من لدن كثير من علماء الدين أو المشايخ، فهو يبيح ممارسة بعضاً من تلك الأفعال. والأدهى أن بعض الخطابات تطلق من مساجد في بغداد أو بعض المحافظات دون تحرك حكومي لحجبهم.

ما نريد قوله هنا هو: صحيح أن الجميع يعلم بأن تنظيم "داعش" الارهابي يقف وراء أغلب التفجيرات ولا سيما الأخيرة، إلا أنه يستغل الثغرات الأمنية والفراغ السياسي لإثبات وجوده، وبالتالي يعد خرقا كبيرا لمنظومة الأمن العام. الأمر الثاني: لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الكبير للقوات الأمنية ومتطوعي الحشد الشعبي ومن يساندهم في تحرير الكثير من الأراضي وإعطاء آلاف الشهداء في مواجهة التنظيم حتى تنعم المدن بالأمن والأمان، لذلك من الصعوبة تصور أنه مع إعطاء كل هذه الدماء وتحرير المدن أن يقوم التنظيم بالالتفاف وضرب العمق واختراق المدن بهذه السهولة وإعطاء عدد كبير من الضحايا المدنيين.

الأمر الثالث: التغييرات والإقالات التي قام بها السيد العبادي مؤخراً ولا سيما لبعض قادة الأجهزة الأمنية وعلى الرغم من تأخرها، إلا أنها خطوة جيدة، شريطة أن يعقبها اختيار أناس أكفاء مهنيين بعيدين عن مؤثرات الأحزاب أو ممن تدور حولهم شبهات فساد.

الأمر الرابع: نحتاج إلى إعادة هيكلة المنظومة الأمنية برمتها، وعزل التعامل العسكري عن الأمني، وتكثيف الجهد الاستخباري، والاستعانة بالوسائل الأمنية الحديثة في كشف ملابسات الجريمة قبل وقوعها بواسطة أجهزة المراقبة وما شابه، ومراقبة حواضن الارهاب ولا سيما مناطق حزام بغداد وفي بعض المحافظات.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق