q

"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، الحديث النبوي الشريف يتردد على الألسن كثيراً، لما فيه من عبرة وحكمة، وإثارة شديدة للمشاعر الانسانية، بيد أن الحاجة في الوقت الحاضر الى التجسيد في الواقع العملي، وأن تكون جزءاً من السلوك والثقافة العامة، ليس في أوقات الشدّة وحسب، وإنما على طول الخط، حتى تكون حاضرة لأي طارئ يداهم الناس، كما يحصل اليوم في العراق من تحديات يواجهها الشعب العراقي في جبهات عدة ومع أعداء متعددين، يهددون أمنه واستقراره ويخسر يومياً العشرات من ابنائه، سواءً؛ في جبهات القتال، او في الاسواق والشوارع والمناطق السكنية على يد الانتحاريين.

وقد أثبتت التجارب أن التحديات والشدائد هي التي تصنع الشعوب؛ فالشرائح الاجتماعية المتنوعة تجتمع لمواجهة الخطر الداهم الذي يهدد مصلحة الجميع، كما هو الحال في السفينة الكبيرة وسط الامواج المتلاطمة، فهذا يقاتل وذاك ينفق وهذه تنتج وتبدع، وحتى الاطفال يحاولون الاسهام بأموالهم البسيطة من "الحصالة" الصغيرة لديهم لتقديمها للمجهود الحربي – مثلاً- وهكذا {لينفق ذو سعة من سعته...}، وفي هذه التجارب لم تسجل هزيمة او انتكاسة لشعب في هذا المستوى من التفكير.

وفي العراق لدينا مناسبات عديدة تتشكل فيها صور التكافل والتعاضد بأروع ما يكون، لعل ابرزها؛ أيام شهر رمضان المبارك المنصرمة، التي وقعت في أواخرها، حادثة الاعتداء الارهابي الجبان على الاسواق في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، وربما تكون تلك الايام القاعدة الرصينة لانطلاق حملة واسعة للمواساة والتعاون لمشاطرة الألم ومحاولة سد بعض الفراغ الذي تركه الأب الشهيد او الشاب الواعد أو الاطفال الصغار وغيرهم ممن راحوا ضحية ذلك العمل الاجرامي.

فأن يكون المجتمع كله عبارة عن "جسد واحد" على طول الخط، لهو مكسب كبير ينعكس مباشرة على مجمل الاوضاع في الساحة، الاقتصادية منها والسياسية وحتى الامنية، حيث كلما كان التماسك بين المجتمع أصلب، والعلاقة بين هذا المجتمع والدولة او حكومته أقوى، كان التماسك أقوى في الاجهزة الامنية، وبالامكان تحقيق القدر الاكبر من الاستقرار في البلاد، بمعنى أن قانون "الجسد الواحد" يمثل اجراء احترازي او خطوة استباقية لأي طارئ يضرب كيان المجتمع والدولة، فيكون استيعاب الصدمة – أياً كانت- اكثر نجاحاً.

ولعله يمكن الاشارة الى المبادرات الطيبة التي صدرت من عدد من المهنيين والحرفيين النبلاء، كل يتحمل جانباً من العبئ الذي خلفه الانفجار من خسائر مادية لأهالي المنطقة، ومن دون مقابل، فالمحامي يتبرع بمتابعة أي قضية يطلب منه لمتابعة شؤون المتوفين في الدوائر الرسمية وغيرها من القضايا، فيما يعلن عامل البناء المشاركة في الترميم، وذاك مصمم الديكور يعلن استعداده المشاركة في إزالة آثار الحريق عن وجه المحلات التجارية وهكذا، وهي مبادرات نرجو أن تتسع في الوسط الاجتماعي وتأخذ مديات واسعة في محيط المرأة والطفل والمدارس والاسواق وكل مفاصل المجتمع، بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الذي حصل في الكرادة، كان استهدافاً للمجتمع بأكمله، فقد استشهد الطفل والمرأة والشاب والجامعي والرياضي والفنان.

واذا اردنا تحويل المبادرات الفردية الى حالة عامة في المجتمع، علينا توفير الارضية الواسعة والصلبة لذلك، وهذا بدوره لن يتوفر اذا كان المجتمع - بالاساس- يعاني نوعاً من الطبقية بفعل الظروف السياسية الراهنة التي أنتجت اقتصاداً غير منظم ولا يسير وفق منهج محدد وسليم من شأنه ان يضمن حقوق الجميع او ان يضمن العدالة في الفرص وتوزيع الثروة، وفي المحصلة؛ يوجد حالة من التقارب في مستويات المعيشة.

هذا التفاوت الطبقي او الاختلاف في المستويات المعيشية هو الذي يقعد البعض عن المبادرة للتكافل والتعاون حتى وإن كان قادراً عليه، فما الذي يجبره على الإنفاق او التضحية بجهده وماله من اجل الآخرين، عندما يرى أنه عاش وحده، وعمل لوحده، وكسب المال لوحده ايضاً، وإذن؛ لا علاقة له بالآخرين، وليحصل ما يحصل...! علماً إن هذه الحالة الاجتماعية هو ما تشكو منه العديد من البلاد الاسلامية رغم المصائب التي تحل بها، فهناك من يعيش الفقر والمعاناة وحتى التشريد ويواجه الموت، فيما هنالك في المقابل من هو في رغد العيش.

لنلاحظ الانتصار الباهر الذي حققه الشعب العراقي على "داعش" بما لم يحققه أي شعب وأي بلد في المنطقة والعالم، عندما تحول الى "جسد واحد" لمواجهة الخطر الداهم من الخارج، فهذا يسترخص دمه، ويتخلّى عن عائلته وعمله وحياته الجميلة، وذاك يسترخص أمواله بالبذل والعطاء لمساندة قوات الحشد الشعبي والقوات المسلحة، كما نلاحظ اسهامات الآخرين في مجالات اخرى.

هذا المشهد الجميل الذي فاجئ الجميع، هو الذي ترك أثره البالغ على المشهد السياسي والامني في العراق والمنطقة بل والعالم أجمع، فاليوم القوة الوحيدة التي يتراجع أمامها "داعش" هي قوة الشعب العراقي وتضحياته وبسالته.

نفس الشيء ينطبق على الجبهة الداخلية، فلا يقل أحد: "لا فائدة من ذلك، فهناك خروقات أمنية تقف خلفها أيادي داخلية او خارجية أو قوى....". وغير ذلك من التكهنات والتحليلات المتشائمة التي تشكل بحد ذاتها نوعاً من الخرق في المعنويات والنسيج الاجتماعي، بما لايقل خطورة عن الخرق الامني عند السيطرات الامنية.

ويعرف المتابع جيداً، أن حادثة الكرادة، لم تكن الاولى، ولن تكون الاخيرة، رغم بشاعتها، لان الملف الامني في العراق ما يزال مفتوحاً على كل الاحتمالات – للأسف الشديد- الامر الذي يتعين على الجميع التفكير ملياً في الطريقة التي نسد فيها كل الطرق على تحركات الارهابيين الدمويين، أينما كان مصدرهم ومنشأهم، على الاقل لنقلب علمياتهم الاجرامية بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة، محاولات خاسرة أمام الرأي العام العالمي، وأن الارهابيين إنما يواجهون شعباً بأكمله وليس نظام حكم او جماعة سياسية.

اضف تعليق