q

من معسكر "الركبان"، إلى مطار إسطنبول، مروراً بقريتي القاع اللبنانية وتل أبيض السورية، لقد جنّ جنون داعش، وبلغ "القتل من أجل القتل" ذروته السوداء، لكأن التنظيم الأكثر دموية من بين جميع المنظمات الإرهابية المتطرفة التي عرفنا، لم يعد يجد شيئاً يتغذى به سوى دماء الأبرياء وأشلائهم، وبات القتل الجماعي العشوائي، وسيلته للبقاء في الصورة، والتمدد على صفحات الصحافة وشاشات وسائل الإعلام.

لم نستغرب واقعة "الركبان"، فالأردن في حالة حرب مع التنظيم، والموقع المستهدف بالسيارة والانتحاري المفخخين، ذي طبيعة عسكرية من حيث تشكيلته، وإن كان من طبيعة إنسانية من حيث وظيفته... لكننا فوجئنا بالهجمات الانتحارية المتكررة على بلدة القاع اللبنانية... يبدو أن التنظيم مصر على الاحتفاظ بقدرته على الإدهاش ومفاجأة الجميع... ثمانية انغماسيين، يتسللون إلى البلدة الحدودية – المسيحية المسالمة، فينقضون على أهلها بالرصاص والقنابل اليدوية، قبل أن يحيلوا أجسادهم إلى قنابل، توزع الموت على النساء والأطفال والرجال من دون تمييز.

وإذ تفشل الموجة الأولى من الانتحاريين في إيقاع "ما يشفي غليل" مشغليهم وشيوخهم، تراهم يبعثون بموجة جديدة من "شياطين الموت"، علّهم يأخذون البلدة وأهلها في غفلة منهم، وعلى حين غرة... لكن البلدة التي تعلمت درسها مبكراً، تحبط مساعي الأشرار، ويُهزم القتلة بحساب الربح والخسارة... فلا البلدة أصيبت بالذعر والهلع، بل امتشق أهلها السلاح للدفاع عن أرضهم وعرضهم وحياة أبنائهم وبناتهم، تحت كنف الجيش وبرعايته... وأعداد القتلى من الانتحاريين أو الانغماسين، فاق أعداد الشهداء من أبناء البلدة وبناتهم.

وإذ رأينا في الهجوم الإجرامي على تل أبيض، عملاً بربرياً من طراز خاص، فقد أدرجناه في إطار الحرب المفتوحة بين الشعب السوري بكل مكوناته من جهة، والتنظيم "الجهادي" من جهة ثانية... لكننا، ونحن الذين تابعنا بكثير من الاشمئزاز والاستنكار، "زواج المتعة" بين "الدولة الإسلامية" وحكومة العدالة والتنمية التركية، هالنا ما جرى في مطار أتاتورك في إسطنبول، لا من حيث أعداد الضحايا في هذا المرفق الدولي شديد الحيوية والازدحام، بل من حيث بلوغ العداوة المستجدة بين الجانبين إلى مرحلة "كسر العظم" و"الضرب تحت الحزام"، وإسقاط كل ما يمكن تصوره من "خطوط حمراء".

صحيح أن "داعش"، سبق وأن ضرب تركيا مؤخراً في أكثر من موقع، وأوقع الكثير من الخسائر البشرية والمعنوية والاقتصادية في صفوفها... لكن الصحيح، ان "غزة مطار أتاتورك" من حيث الهدف ووسيلة التنفيذ، وربما التوقيت، جاءت بمثابة "إعلان حرب" بلا هوادة من التنظيم ضد رعاته السابقين، الذين فتحوا له الحدود على مصراعيها لاستدخال أكثر من 30 ألف مقاتل أجنبي، واتّجروا معه بالنفط والآثار والمواد المسروقة من سوريا والعراق، فكان مديناً لحكومة أنقرة بكل شيء تقريباً، حتى بشبكة اتصالاته التي أجاد استخدامها في حربه الدعائية.

التنظيم في لحظة حرجة، بعد أن فقد أكثر من ثلثي الأراضي التي سيطر عليها من العراق منذ عامين تقريباً.... والتنظيم يخسر في سوريا، أمام جميع الأطراف التي تقاتله... على جبهة منبج شمالاً، يخسر التنظيم الأرض والنفوذ يوماً بعد آخر، أمام "قوات سوريا الديمقراطية – قسد"... وعلى جبهة البوكمال شرقاً، يخسر التنظيم أمام "قوات سوريا الجديدة"، وهذه وتلك مدعومتان من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة... وأمام الجيش السوري، المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله، يخسر التنظيم على جبهة الطبقة وحقل "شاعر"، وغيرها من خطوط التماس.... التنظيم في انهيار على الأرض، وأيامه في سوريا والعراق، باتت تعد بالأشهر فقد، لا أكثر ولا أقل.

وربما لهذا السبب بالذات، يتوحش التنظيم أكثر فأكثر، ويستميت في التعويض عن خسائره على الأرض، بمكاسب في الفضاء والفضائيات... يضرب يميناً ويساراً... لم يعد يميز بين "عدو بعيد" و"عدو قريب"... المهم أن تتطاير الأشلاء وترتفع ألسنة النار واعمدة الدخان... اختيار الأهداف لم يعد مشكلة أمام التنظيم، حيثما وصلت أقدام الانغماسيين المدججين بالأحزمة والحقائب الناسفة أو سيارات الانتحاريين المفخخة، هي أهداف مشروعة لإرهابيي التنظيم... وعلينا أن نتحضر لمزيد من المفاجآت، فالتنظيم لم يفقد قدرته على "الإدهاش"، وما زالت في جعبته الكثير من المفاجآت الدامية.

هي أخطر مراحل المواجهة مع التنظيم والحرب على الإرهاب، وعلينا أن نتحضر لها على الحدود وفي الجبهة الداخلية، سيما حين يتصل الأمر بالأهداف الرخوة... ولقد كان مدهشاً أن ترى في بعض مناطق لبنان بعد "غزوة القاع"، كيف يُطلب من المواطنين عدم الاستجابة للطارقين على أبوابهم، قبل التأكد من هوياتهم، فربما يكون الموت الزؤام بانتظارهم خارجها... وكان مدهشاً أيضاً، أن ترى كيف تحول "كل مواطن إلى خفير" يستوقف الغرباء والسابلة، حتى وإن كان يدرك أنه قد يواجه الموت، لمجرد طرحه لسؤال: من أنت؟... هي حالة استنفار تامة، لا تعيشها أجهزة الدولة من أمنية وعسكرية فحسب، بل وكل مواطن في بيته وحارته وحقله ودكانه... إنها المواجهة الأخيرة مع داعش، ويبدو أنها ستكون الأعنف والأكثر قسوة ودموية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق