q

غالبا ما يتعلق الفساد المرتبط بعمل مؤسسات الدولة بمفهوم "البيروقراطية" او "سلطة المكتب"، وقد شكلت هذه المفردة أساس عمل المنتفعين من اندماج مصالحهم الشخصية في صلب القانون والنظام الحكومي عبر تطبيق الروتين والمنظومة الإدارية المعقدة في اغلب مفاصل الدولة وتفرعاتها الرئيسية، وهم بهذا يضمنون بقاء نفوذهم وتقوية مراكزهم والاستفادة بشكل مطلق دون ان يكونوا تحت طائل القانون، الذي بدوره يقدم لهم الشرعية والحماية اللازمة.

ولا يختلف "السياسيون الفاسدون" في العراق كثيرا عن ممارسة هذا المفهوم بطرقه المعقدة والمتداخلة، بل وبدل مختلف الجهود في تعزيز وابتكار طرق جديدة لديمومة العمل بالبيروقراطية التي تحولت في العراق الى "دولة موازية" لا يقل خطرها عن باقي المخاطر الأمنية والاقتصادية التي يعاني منها العراق في هذه الأيام، ومع ان للفساد أوجه كثيره الا ان اكثرها دمارا على مستقبل العراق هو الفساد السياسي لما له من تبعات كارثية على مختلف النواحي التي يتحكم بها السياسي باعتباره جزء من المنظومة الرسمية التي تحكم البلاد، وهو امر يبعث على القلق في ظل تنامي مؤشرات الفساد مع عدم وجود أي جهة رادعة يمكن ان تمنع او تحجم دوره في انهاك الدولة والمواطنين واضعاف فرص نجاح العراق، كبلد يتمتع بنظام ديمقراطي جيد وثروات طبيعية هائلة ومؤهلات أخرى قد تجعله من بين الدول المستقرة سياسيا وامنيا واقتصاديا، بدلا من هذا الارباك الواضح، والأزمات المتلاحقة، والاخفاقات التي لا يعرف مصدرها الحقيقي.

وقد حاولت الحكومات المتلاحقة التي قادت الدولة العراقية بعد سقوط نظام صدام عام 2003 وحتى الوقت الراهن، رفع شعار "القضاء على الفساد"، لكن في العراق الفساد لا يحتاج الى رفع الشعارات حتى يتم التخلص منه، (سيما وان الكثير من الفاسدين كانوا مع من رفع هذه الشعارات)، بل يحتاج الى أكثر من ذلك، فهو يحتاج الى "ثورة إصلاحية" شاملة تبدأ من القوانين الصغيرة التي سهلت عمل المفسدين، حتى الوصول الى أهمها (القوانين المصيرية)، فضلا عن تأسيس "ثقافة النزاهة" في قبال "ثقافة الفساد" التي طغت على جميع الثقافات الأخرى في العمل الحكومي والجهات الرسمية، ويكفي البحث عن عدد المسؤولين الهاربين الى خارج العراق (وزير، وكيل وزير، مدير عام) لتجد ان العشرات منهم قد سرقوا المليارات من الأموال العامة، بحسب هيئة النزاهة التابعة للدولة العراقية، من دون ان يكون هناك اجراء صارم بحق أي سارق منهم.

ويرى باحثون ان للفساد في العراق جذور تعود الى العهود الماضية، الا ان الازمات العصيبة التي مرت بها الدولة العراقية بعد عام 2003 ساهمت بشكل فعال في احياء الفساد مع ضعف الدولة ومؤسساتها وغياب الجهات الرقابية، أضافة الى الأموال الطائلة التي جناها العراق من بيع النفط وارتفاع أسعاره، وكانت مافيات الفساد (بعد عام 2003) تقوي نفوذها وترفع من وتيرة عملها، حتى أصبحت تتمتع بسلطة مطلقة، في اغلب مؤسسات الدولة، كما كانت قريبة من صناعة القرار السياسي للبلد، واستطاعت في العقد الماضي من نهب نصف ميزانيات العراق السنوية، بحسب مراقبين وخبراء اقتصاديين، وهو ما انعكس بأثاره السيئة على العراق من جميع النواحي الخدمية والاقتصادية والرسمية، وحتى كهيبة البلد باعتباره، ومنذ عام 2003، يتربع في مقدمة الصف العالمي للدول المتهمة بالفساد، بحسب الإحصاءات الدورية التي تصدرها منظمة الشفافية الدولية كل عام.

وقد يتبادر الى الذهن، والحال هكذا، كيف يمكن (القضاء/تقليل) الفساد والبيروقراطية في العراق؟

لقد أشار رئيس الوزراء للحكومة العراقية الحالية السيد "حيدر العبادي"، الى ضرورة القضاء على الفساد في العراق، ومثله بالوجه الثاني للإرهاب الذي يكافح العراق للتخلص منه منذ ما يفوق العقد من الزمن، وقد اتخذت الحكومة التي يترأسها العبادي جملة من القرارات القوية تجاه الفساد المستشري في وزارة الدفاع ومحاسبة بعض المسؤولين في الوزارات الأخرى، كما قام العبادي بإلغاء بعض الحلقات الروتينية الزائدة، وهو بذلك يقوم بتفكيك منظومة الفساد خطوة خطوة، بدلا من مواجهتها دفعة واحدة، لان مافيات الفساد في العراق وتغلغلها في جميع مؤسسات الدولة حولها الى "دولة موازية" لا يمكن القضاء عليها بالمواجهة الفورية، خصوصا اذا عرفنا ان رئيس الوزراء "حيدر العبادي" قد اعلن مؤخرا انه تعرض الى محاولة اغتيال وشيكة كادت ان تؤدي بحياته، وقد لا يقتصر الامر على محاولة الاغتيال، فالحرب مع الفساد في العراق قد لا تبقي ولا تذر، لذا يتطلب الامر التعامل معها بحذر وواقعية ولكن بجدية.

اضف تعليق