q

في جميع المراحل التاريخية لحياتهم؛ كان اليهود، الذين يسمّيهم القرآن الكريم "بنو اسرائيل"، يبحثون عن الأمان والاستقرار والحياة الوادعة دون مشاكل، ولكن دون جدوى، ومنها ما حصل لهم مع الملك طالوت، الذي ظهر في الساحة بعد وفاة النبي موسى، عليه السلام، وطيّ الحقبة الفرعونية المظلمة، حيث طلبوا من نبيهم المساعدة لمواجهة جالوت، فبعث الله لهم هذا الملك، وأعطاه بسطة في العلم والجسم، بعد أن عابوا عليه فقره ومستواه الاجتماعي، كما لو أنهم كانوا يتوقعون ترشيح أحد الاثرياء من بينهم.

الخطوة الاولى والذكية التي قام بها هذا الملك، أن أشار اليهم الى نهر جارٍ امامهم بماء عذب، وقال: على كل واحد الاغتراف غرفة واحدة بيده لا أكثر، فمن فعل غير ذلك فليس منّي.

انه اختبار بسيط من ظاهره، بيد أنه كان صعباً على قوم يبحثون عن الراحة والدعة على طول الخط، فلم يلتزم بأوامر الملك إلا قليلاً من القوم، ونتيجة عدم الالتزام ظهرت في ساحة المواجهة عندما تذرع البعض – وهم النسبة الأكثر- بأن {لا طاقة لنا بجالوت وجنوده...}.

وقبل هذه كان لبني اسرائيل موقف مع نبيهم موسى، عليه السلام، عندما تحقق لهم أعظم المعاجز في تاريخ البشرية، بانفلاق البحر نصفين ومرورهم في قاع البحر بسلام لينجوا من فرعون وجنوده الذين كانت نهايتهم في هذا البحر الذي اطبق عليهم وأهلكهم وخلص بنو اسرائيل من شرّهم، فكان الجزاء بعد فترة وجيزة بـ "عبادة العجل" من دون الله الواحد الأحد الذي أنجاهم من الموت والعذاب والمهانة، ولما سألهم نبيهم عن السبب وراء هذا الانقلاب، كان الجواب، ليكون لنا إله كما لغيرنا إله...!.

وهكذا نلاحظ الانسان في كل زمان ومكان يتصور أن بامكانه صناعة السعادة وتحقيق ما يريد بأقل الاثمان، وعدم تكليف نفسه عناءً مادياً او معنوياً، والقصص الحق التي يرويها لنا القرآن الكريم عن بني اسرائيل وأقوام اخرى في التاريخ، تعبر عن حالة انسانية صادقة لأناس يبحثون عن السعادة بما تعنيه الكلمة من دلالات العيش الكريم والأمان والاستقرار، إذ لا وجود لمن يطلب عكس ذلك، بيد أننا نلاحظ هذا النقيض فيما جناه هؤلاء في مراحل تاريخية عديدة من حياتهم، فهم فعلوا كل شيء – وما يزالون اليوم- لكن لم يحققوا ما كانوا يصبون اليه منذ آلاف السنين، سوى عدم الاستقرار الدائم في علاقاتهم مع الشعوب والأمم الأخرى، وأزمات لا تعد في نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، حتى باتت الدولة العبرية الحالية، عبارة عن بؤرة للأزمات التي تبعث بشظاياها هنا وهناك.

الاختبار الحقيقي يصقل المواهب والقدرات

ربما يتبادر الى الاذهان؛ الاختبار فيما يصنعه الانسان بغية التحقق من النجاح، فهو يختبر قدراته ومواهبه بينه وبين نفسه، كما يقوم بالشيء نفسه مع المحيط الخارجي، حيث يختبر قدرات الآخرين المرتبطين معه في شؤون مختلفة، كما يختبر نجاح ما يقوم به ويسعى لتقديمه كمنجز الى الآخرين، وكل هذا أمر حسن لا غبار عليه، يبقى أن يلتفت الى محدودية موضوع الاختبار بالزمان والمكان، فهو يختبر قدراته الذهنية والعضلية، ويكسب النتيجة الجيدة، فهذا يفيده لفترة معينة، كذلك الامر لما ينجزه، فهو محدود بشيء معين، وربما تنعكس النتيجة الايجابية لاختبارت كهذه على الواقع، لكن تبقى في اطارها الخاص، فالطالب يفرح بشهادته الجامعية، والعامل بفرصة العمل التي يقتنصها كما يفرح بما ينجزه ويبدع فيه، وهكذا المزارع والكاسب وغيرهما.

أما اذا اراد الانسان سعادة حقيقية ذات ابعاد واسعة في حياته، فما عليه إلا أن يخوض اختباراً من السنخ ذاته، منها مثلاً؛ اختبار الارادة والصبر، وهذا ما يسميه القرآن الكريم بـ "الابتلاء"، فهو لا يصنعه الانسان بنفسه، لعجزه عن التبصّر بآفاق المستقبل وما ستكون عليه عواقب الامور، لذا يكون الابتلاء من الله – تعالى- لهذا الانسان في مجمل حياته، لذا هنالك ابتلاءات واختبارات عظيمة مثل الكوارث الطبيعية او الاوبئة او الحروب والازمات الاقتصادية الحادّة وغيرها.

وبقدر هذه الابتلاءات وشموليتها لواقع الانسان، تكون حجم الفائدة منها، فالذي ينجح في اختبار الارادة والصبر على المكاره والتحديات، فانه ينجح ايضاً في صقل قدراته ومواهبه في تجاوز تلك التحديات والابداع في خلق واقع جديد، كما هي الامثلة عديدة في شعوب وأمم خلت من قبل، وربما تكون الازمات الخانقة والرهيبة في العراق منذ سقوط الطاغية، تمثل احدى تلك الابتلاءات التي انتجت وعياً جماهيرياً عميقاً انساب مثل السيل الهادر نحو جبهات القتال لخوض معارك المصير مع التكفيريين، وها هم أبطال الحشد الشعبي والجيش يحققون ما عجز عنه الآخرون طيلة السنوات الماضية، ويدخلون مناطق عجز حتى الجيش الاميركي من اقتحامها.

ولا ننسى أن السعادة التي يتوقع الجميع تحقيقها، لن تكن دائماً في مظاهرها المادية، مثل الحصول على الثروة او العلم او المسكن الجميل والاولاد الطيبون وغير ذلك، ويمكن ان نجد هنالك من يسعد بإسعاد الآخرين، بمد يد العون اليهم باشكال مختلفة، او من هو سعيد بإيمانه، ويعتقد جزماً أنه من خلال إيمانه يتمكن من انجاز العظائم والعيش رغداً بعيداً عن المنغّصات والازمات، وهذا تحديداً ما لمسناه من الشباب المجاهد الذي يتسابق الى الشهادة، تاركاً الاطفال والأهل والاحبة، مفضلاً الدفاع عن القيم والمقدسات والاعراض.

الهروب من الابتلاء الهروب من الحياة

يُروى أن جبرائيل، عليه السلام، نزل ذات مرة على النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، معه مفاتيح كنوز الارض، وقال له: "يا محمد! السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضة، وخذ هذه مفاتيح كنور الارض ولاينقص من حظّك يوم القيامة. قال: يا جبرائيل: وماذا يكون بعد ذلك؟ قال: الموت! قال: إذاً؛ لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع الى ربي وأسأله، واليوم الذي اشبع فيه أشكر ربي وأحمده"، وقال: صلى الله عليه وآله، في مكان آخر: "ألا أكون عبداً شكوراً".

البعض يخشى الابتلاء والاختبار، ويتصور إن نوعاً من العقاب والطرد عن أجواء الرخاء والاستقرار، أما الذي يمتلك كل شيء فانه يعيش بشكل طبيعي، وهذا رسول الله، امامنا يفضل أن يكون "عبداً شكوراً" على أن يمتلك مفاتيح كنوز الارض، وليس فقط جبل من ذهب او من فضة، فان يكون الانسان على علاقة مستديمة مع الخالق – جلّ وعلا- بحد ذاتها تعد نقطة قوة هائلة في النفس الانسانية على خوض الاختبار والابتلاء بكل ثقة ودون خوف من الفشل.

وإذن؛ فالذي يهرب من الابتلاءات او يحاول تجنبها ظناً منه أن يأمن "شرها"! ويحافظ على ما لديه من مكاسب وحياة يرضاها، فانه مخطئ أيما خطأ! لأن هروبه يزيد من هشاشة نفسه كما يزيد من نسبة الرين على قلبه فلا يكاد يتبصّر الامور القريبة منها والبعيدة، ثم تخور قواه العقلية والعضلية لمجرد اختبار بسيط يداهم حياته، مثل سقم في البدن او مشكلة مالية او ازمة سياسية او اقتصادية او غيرها، وبذلك فانه يضيع حتى ذلك المكسب الصغير الذي كان يمنّي النفس به، ويسقط في هاوية البؤس والشقاء – لا سمح الله-.

اضف تعليق