q

تلك كانت زيارتي الأولى للنجف الأشرف، طفل عمره تسع سنوات، يذهب صحبة أبيه وأمه وعدد من الأقارب منهم العمّة وابنها (حمزة) الذي يكبرني بعامين، مشهد القباب لا يزال عالقا في ذاكرتي، الحمام الآمن، لأول مرة أرى طيورا لا تخاف من الإنسان، المصابيح تنتشر في كل مكان، الضياء يتوهج في صحن المرقد الشريف، وأنوار عند الأبواب، وفي السور الخارجي، ثم في أسواق المدينة، العطر داخل الضريح له نكهة خاصة، اسمها (ماء الورد) حتى هذه اللحظة هناك بقايا من هذا العطر تقبعُ في أعماق صدري ورئتيّ.

ما أعظم الطفولة والنقاء وهي تحتضن هذه المشاهد المحلاة بالأمن والسلام والرحمة والإنسانية والجمال، كل شيء في مرقد بطل الإسلام العظيم علي بن ابي طالب، يرسم في ذاكرة الطفل مملكة (إيمان) لا تُنسى، جنة على الأرض، كل ما فيها لا يشبه ما هو خارجها، الهواء والماء، عطر ماء الورد، النسيم الذي يهبُّ على الوجوه، الحلوى التي تتناثر على الرؤوس كأنها تهبط من سماء الله على الزوار وأنا كنت من بينهم، كنت أهرب بين حين وآخر من جمع الأهل والأقارب الذين يفترشون ارض الصحن الشريف، وأتسلل نحو المرقد، أستل كراس الزيارة الخاصة، وأبدأ أتهجّى الكلمات، وأنجح في قراءتها وتلاوتها على الرغم من صعوبتها، كنت في الصف الثالث الابتدائي، وقتها كانت نفحات الإيمان تجتاح روحي ويغص بها جسدي.

كانت أمي يرحمها الله تراقب تحركاتي، وتحذرني من التيه بين أجساد الزوار وهم كثيرون جدا، وعمتي كانت تحذر ابنها حمزة من الضياع بين حشود الزوار، وصلنا بعد الظهيرة بقليل الى النجف الاشرف، وسوف نعود بعد صلاة المغرب والعشاء الى مدينة كربلاء المقدسة، سمعت من أبي قصة مبيت الامام علي (ع) في فراش الرسول الأكرم (ص) كي يهاجر بسلام الى المدينة، كنت دائما أتخيل هذا المشهد العظيم، وكنت اقوم بتمثيله مع حمزة ابن عمتي واطفال حي الاسكان، اليوم انا اجلس عند ضريح هذا البطل العملاق، أنظر من خلل فتحات الشباك الى الضريح، أستعيد تلك الذكريات البعيدة، عطر ماء الورد يملأ رئتي، قطع الحلوى تملأ جيوبي.

منذ تلك الزيارة تغيّر تفكيري، وشعرت أنني تركت الطفولة ورائي، وأنني صرت صاحب هدف في هذا الحياة، هكذا كنت افكر بيني وبين نفسي، عندما لمحت امي تبحث عني بين الزوار وهي تعيش حالة من الرعب والخوف لم اعرفها بها قط، وعندما رأتني صرخت فجأة وقالت لقد ضاع (حمزة)، منذ ساعة واكثر نبحث عنه ولم نعثر عليه، هيا تعال معي، وصلت الى الجمع، رأيت حالة من القلق والترقب والخوف تهيمن على الجميع، لا يوجد رجل بين النساء، الجميع ذهبوا للبحث عن حمزة الذي فقدناه منذ ساعتين، عاد الرجال واحدا بعد آخر، والحزن يملأ عيونهم وقلوبهم، السادة ورجال الدين وخدمة الإمام (ع) ساعدونا بأقصى ما يمكن، لكنهم لم يعثروا على (حمزة)، الليل بدأ يهبط علينا بثقله، والعودة الى المدينة أمر لابد منه، هل سنعود الى كربلاء بلا حمزة؟؟، وهل ستبقى رائحة ماء الورد التي ملأت صدري مرافقة لي، احملها معي الى كربلاء وأفقد أخي وسندي في الدراسة (حمزة)؟.

بكاء لا يتوقف

قرر أبي وأبو حمزة وعمي محمد ورجال آخرون معنا، بعد ساعات طويلة من البحث، أن نعود الى بيتنا في حي الاسكان بكربلاء، على ان يعودوا الى النجف فجرا للبحث في مراكز الشرطة والمستشفيات والاستعانة بخدمة مرقد الامام (ع)، بكاء النساء بدأ يعلو، عمتي رفضت مغادرة النجف وقالت هنا سأنام ليلتي في حضرة الامام علّ ابني يعود، أقنعوها بعدم جدوى هذا الإصرار، غدا فجرا سيعود مجموعة من الرجال الى النجف بحثا عن (حمزة)، رائحة ماء الورد بدأت تتسرب من صدري ليحل محلها البكاء.

كانت السيارة تنهب الطريق بصوتها وهدير محركها المتصاعد، البرد والظلام يشتد، صورة حمزة لا تريد أن تفارقني، الدمع والحزن وعطر الورد يمتزجون معا، أتذكر مصابيح المرقد، الزوار، نسيم الهواء العليل، تلك الجنة التي لم أرَ مثلها من قبل، هل يعقل أنها ستكون سببا بضياع أخي وسندي (حمزة)، كنت ابكي بصمت، وامسح الدمع الساخن عن وجنتي، ومع هدير السيارة كنت اسمع بكاء عمتي وأمي التي تولول بصمت خوفا من أبي الذي منع الجميع من البكاء.

هذه زيارتي الأولى للنجف الاشرف، وكان حمزة قد زارها سابقا، ولكن لماذا فقدناه، لماذا ضاع منا، عمتي اسمعها تردد، وتطالب الامام (سيدي اريد وليدي منك، نحن ضيوفك ونريده منك)، يزجرها زوجها وابي كذلك، أنا أتساءل كيف يضيع (حمزة) كيف نعود من دونه الى بيتنا في كربلاء المقدسة؟، هل يقبل الامام علي بذلك؟؟.

شعرت بالحزن اكثر، وبدأ القلق يأكل رأسي الصغير، وبدأ الشك يجتاحني على الرغم من صغر سني، كيف يضيع منا حمزة ونحن في ضيافة علي ابن أبي طالب الذي بات ليلته الخطيرة تلك بمكان الرسول الاكرم (ص) الذي هاجر الى المدينة بعد تهديدات المشركين من قريش؟.

الإمام العظيم، والفارس الكريم، وأبو الأيتام، وناصر الفقراء، كيف يقبل أن نعود الى أهلنا وقد فقدنا (حمزة)، الشك أخذ يجتاح رأسي الصغير بقوة، وأنا أستعيد مشهد الحضرة والضريح والمصابيح وعطر ماء الورد، وبين هذه الأشياء كلها، يلوح لي وجه حمزة حزينا ضائعا من بين أيدينا في مكان لا يعلمه إلا ألله.

علي (ع) أكرم الكرماء

لم أفقد الأمل على الرغم من أنني في التاسعة من عمري، حتى هذه اللحظة أتذكر أنني سأجد حمزة وسوف أراه ثانية، وكنت على يقين عجيب بأن حمزة لا يضيع منا، وقلت لعمتي هذا الكلام فبكت وقالت (الله يسمع منك يا ولدي)، وباركت بي أمي، ومدحني ابي، وسألني كيف سنجده، فقلت له، لقد نمت دقائق بالسيارة وهي تسير بنا الى كربلاء، ورأيت حمزة يأتي إلينا وأمامه مصباح يشبه مصابيح مرقد الامام علي، فصرخت عليه حمزة، تعال، أنت اين، لماذا ضعتَ منا؟، فقال أنا لم أبتعد او أضِعْ، وها أنا بينكم، ولكن كنت اصلي في المحراب الآخر وأطوف حول المرقد الشريف.

رأيت هذا المشهد بعيني وسمعت الكلام بأذني وأخبرت عمتي وأمي وأبي بذلك، فهدأت القلوب، وتوقّف البكاء، واطمأنت النفوس، وواصلت السيارة طريقها الى كربلاء المقدسة، وبعد صمت وظلام وبرد وتوجس بين الخوف والأمل، توقف السيارة قريبا من البيت وهبطنا منها واحدا تلو الآخر، وما أن طرقنا باب البيت حتى فتحه لنا (حمزة) بنفسه، فضج البكاء والرهبة والصراخ والزغاريد، والصلوات على محمد وآل محمد، وبدأ الشكر بصوت عال للإمام علي عليه السلام، لقد تحققت الرؤيا، اذ كان حمزة بعد ان يئس من العثور علينا قد استقل (باص المصلحة الحكومية) مع ركاب آخرين، وسبقنا بمفرده الى البيت.

شكرنا الله تعالى، وشكرنا الإمام علي عليه السلام، وركضت الى حمزة وضممته الى صدري، وأنا أفكر في صباح الغد لن اذهب وحيدا الى مدرستي الابتدائية، سوف يكون معي سندي حمزة، سنذهب معا انا وهو الى مدرستنا صباحا، ضممته مرة اخرى الى صدري وأنا أشم في ثيابه البيضاء، عطر ماء الورد الذي شممته في ضريح الامام (ع).

اضف تعليق


التعليقات

ام فاطمه الشمري
العراق
احسنتم زادكم الله توفيقا2016-06-29
ام محمد
كويت
رواية قصيرة ولكنها ابقت اثرها الجميل في النفس ، طاب قلمكم استاذنا الكريم2016-06-29