q
ملفات - شهر رمضان

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السّنةُ الثّالِثَةُ (٩)

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.

٣/ تكافؤ الفرص {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فنرفض الاحتكار والاستِئثار بفُرص الخير وحصرها في المحازبين فقط ومن ايّ نوعٍ كان، فالأرض وما فيها وما عليها هو ملك لكل الشّعب بلا تمييز، كما انّ قدرات وامكانيات كلّ مواطن من علمٍ وخبرةٍ وتجربةٍ واختصاصٍ هي الاخرى للبلاد لا يجوز لأحد ان يقمعها او يبخسها بالصدّ عنها ومنعها من خدمة البلاد.

وفي الآية المباركة التفاتة رائعة جداً، وهي ان بخس النّاس أشياءهم يُنتج الفساد، كيف؟!.

انّ للنّاس اشياءً ماديّة ومعنويّة، من جانبٍ، وأشياء شخصيّة وعامّة، من جانبٍ آخر، فالمكيال والميزان أشياء خاصة، امّا العلم والمعرفة والخبرة والنّزاهة والاختصاص والتّجربة فأشياء عامّة.

اذا تجاوز أَحدٌ على الأشياء الخاصّة للإنسان فقد لا يتضرّر الا هو، امّا اذا تعرّضت أشياءهُ العامة للعدوان والبخس والتّجاوز، فانّ الخسارة ستُصيب المجتمع، وبذلك ستُساهم في خلق الارضيّة المناسبة للفساد، وهذا ما نلاحظهُ اليوم في بلداننا، العراق نموذجاً، فعندما بخس السياسيّون الأشياء العامة للنّاس، كالعلم والمعرفة والخبرة وغير ذلك، فازاحوا الرّجل المناسب عن المكان المناسب، وأَحلّوا محلهُ الرّجل غير المناسب في المكان غير المناسب، عندها تهيأت الارضيّة لنموّ الفساد الاداري الذي أنتج بدورهِ الفساد المالي، وبالتالي أضاعوا على العراق فُرصاً عظيمة في التّنمية والتطوّر، وهو الشيء الذي نلمسهُ على مختلف الاصعدة! فكانت النّتيجة ان {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.

يجب ان تحكم المجتمع ثقافة إِحترام أَشياء النّاس، سواء على صعيد الأُسرة فيحترم الأب أشياء ابنه والامّ اشياء بنتها، خصوصيّاتهم، شخصيّاتهم المعنويّة، خبراتهم ووعيهم وفهمهم للامور وحديثهم ورأيهم، او في المدرسة والجامعة وفي الشّارع ومحلّ العمل، صعوداً الى الدّولة ومؤسّساتها، فانّ احترام اشياء النّاس يفتح الباب على مصراعيهِ أمام الخبرات والطّاقات في المجتمع للتبوّأ مكانها المناسب في الخدمة العامّة، كما انّ ذلك يساعد على بناء الشّخصية خاصةً للجيل الجديد الذي لازال يشعر بانّهُ ممنوعٌ من التّعبير عن نَفْسه وانّ الآخرين، وأقرب النّاس اليهم، الوالدان والأخ او الأخت الكبيرة، لا يحترمون أشياءهم وخصوصيّاتهم، وكأَنّهم يُريدون ان يتدخّلوا في كلّ شيء ويعرفوا كلّ شيء ويحدّدوا لهم خياراتهم في أَبسط الأشياء وربما أتفهَها، ولذلك يكبر الكثير منهم وهو بلا شخصيّة كالاهبل في المجتمع لا يعرف كيف يعرّف عن نَفْسهِ ويعبّر عن رأيه، اذا سُئِل أجاب الابُ عَنْهُ، واذا أراد ان يتكلم سارعت الأُمُّ للحديث بالنّيابةِ عَنْهُ، فهو يفتقد الى الشّخصية ولا يعرف كيف يعبر عن نَفْسهِ ويخشى ان يقف امام عدسة الكاميرا ليُدلي بجملةٍ مُفيدة!.

انّ من اعظم الأخطاء عندما نتجاوز على اشياء النّاس ونبخسها، فنساوي بين الجميع، بين الذي يفهم وبين الأهبل، بين العالِم والامّي، بين صاحب الخبرة والآخر الذي لا يفهم شيئاً بواجباتهِ القانونيّة والدستوريّة، بين صاحب الاختصاص والآخر الذي لا يمتلك ايّ اختصاص، فتكون النتيجة برلماناً لا يميّز أعضاءهُ بين النّاقةِ والجَمل، يقودهم زعيم الكتلة او الحزب كراعٍ يَهُشُّ على غنمهِ في حضيرة الدّواب او في المرعى، لان ادراج أسماءهم في القوائم الانتخابيّة كان على أساس معيار الولاء للزعيم او الحزب فقط وليس على أساس معيار (الأشياء) التي يمتلكها والتي تجعل منه صاحب رصيد شخصيٍّ قادرٌ بهِ على الانجاز والنجاح، وفي المقابل، تمّ ابعاد كثيرون من دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يمتلكون من أشياء حقيقيّة يمكنهم بها تحقيق الأهداف التي من أجلها يحجز المرشّح مقعدهُ تحت قبّة البرلمان، ولذلك كانت النتيجة كما حددتها الآية المباركة، الفساد!.

يوصي أَميرُ المؤمنين (ع) مالكاً الأشتر في عهدهِ لهُ لما ولّاه مصر، ان يحفظ للنّاس أشياءهم بقوله {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ}.

وأسوء من تضييع أشياء النّاس، هو تسجيل من له منها شيء باسم من لم يمتلك منها شيئاً، بالتّزوير تارةً والغشّ أُخرى، والتّضليل ثالثة.

يقول أَميرُ المؤمنين (ع) في عهده المشار اليه {ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِىء إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىء إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَضَعَةُ امْرِىء إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَاكَانَ عَظيِماً}.

وقد يكون ذلك بتساوي المُحسن والمُسيء كما يقول أَميرُ المؤمنين (ع) في عهده {وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لاِهْلِ الاْحْسَانِ فِي الاْحْسَانِ، تَدْرِيباً لاِهْلِ الاْسَاءَةِ عَلَى الاْسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ} او قولهُ عليه السلام وما أعظمهُ {ازْجُرِ الْمُسِيءَ بِثوَابِ الْـمُحْسِنِ}.

انّهُ لامرٌ جللٌ ان تنقلب المفاهيم كما يصفها أَميرُ المؤمنين (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود، يُعَدُّ فِيهِ الُمحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا}.

قد يَقُولُ قائلٌ، وهي من طرق التّفكير السيّئة جداً في المجتمعات المتخلّفة؛

أفلا يجب ان يعمل الانسان للثّواب؟ ولكسب الآخرة؟ فلماذا ينتظر من الاخرين ان يثنوا على نجاحاتهِ مثلاً؟ او ينتظر منهم كلمةً تعبّر عن أَجرٍ (معنويّ) دنيوي بالاضافة الى اجرهِ المادّي؟!.

الجواب؛ ان من طبيعة النّاس انّها تندفع للنّجاح كلّما تلقّى المجتمع نجاحاتها بعينِ الرّضا ولو بكلمةِ ثناءٍ، كما ان النّاس بطبيعتها تندفع للنّجاح اذا أثنى المجتمع على النّاجحين، وكأنّهم يندفعون لها غِبطةً او تنافساً وهو شيءٌ حسنٌ جداً في المجتمع، ولذلك يقول تعالى متحدّثاً عن الأجر الذي يقدّمه لأنبيائهِ في الدّنيا على الرّغم من درجتهِم العظيمة في الاخرى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.

وفي الدّول المتحضّرة، الولايات المتحدة مثلاً، يمتاز ويُميَّز الأنجح بين اقرانهِ دائما بشتّى طرُق المكافآت، فهو يتعرّض لها ويحصل عليها بطريقةٍ من الطّرق أقلّها ان تضع المؤسّسة التي يعمل فيها صورتهُ في الواجهة للتّدليل على تميّزه، فضلاً عن الأساليب الماديّة والمعنويّة الاخرى العديدة المتعارف عليها هنا، ولذلك تحوّل التّنافس عندهم الى ثقافة انتجَ كلّ هذا النجاح.

امّا عندنا، فالمساواةُ غائبةٌ الا على هذا الصّعيد، فالناجح والفاشل، واللصّ والنّزيه، وصاحب الخبرة والآخر عديم الخبرة، والمتخصص في مجال عملهِ والآخر الذي لا يفهم شيئاً، كلّهم في بمستوٍ واحد لا يميّزهم شيء، ولذلك فشلنا!.

نُفرِغ كلّ سهامِنا لنرمي بها الفاشل، ولكنّنا نستكثر على النّجاح كلمة (شُكراً) ولذلك، عندنا المجتمع يتربّص بالمواطن لرميهِ بحجر اذا فشل، امّا النّاجحون فيتاماهُ!.

تعلّمنا شتم الفاشل ولم نتعلّم شكر النّاجح!.

اضف تعليق