q

بسبب التعقيدات والتراكمات لكل ما هو سلبي اجتماعياً وسياسياً، بات من الصعب تكوين خطاب وطني نافذ يعضد ابناء الحشد الشعبي في مسيرتهم التحررية نحو معاقل "داعش" في الفلوجة وكامل محافظة الانبار، وربما فيما بعد، مدينة الموصل، فأن يكون ابطال الحشد الشعبي حاملين للروح الوطنية ويقاتلون بهدف انقاذ أهالي الفلوجة من الموت والذل والرعب؛ لهي حقيقة ناصعة يعرفها الجميع؛ يؤمن بها المنصف، ويخفيها المنافق ويهمشها المغرضون اعلامياً وسياسياً، فالجميع يعرف جوهر ومنطلق الحشد الشعبي، وما يكنّه الشباب الشيعي المتطوع والمضحي منذ انطلاق عمليات التحرير.

هذه الحقيقة تتعرض اليوم لتشويه كبير من لدن وسائل اعلام متنوعة بالاستفادة من كافة تقنيات الاتصال والتواصل، لصنع رأي عام مضاد في العراق، لاسيما مع تراجع "قيمة الوطنية" في عيون الكثير، فقد بات اليأس مطبق على رؤية انسان محب لوطنه وشعبه بما فيه من تنوع واختلاف، لذا – والحال هكذا- يستدعي الامر الاستناد الى قيم أكبر وأكثر عمقاً لتكون المنطلق لخطوة أبعد نحو تغيير حقيقي.

الأمن أم السلام؟

طالما تحدثوا عن "الأمن"، فهو مفردة محببة للنفوس وباعثة على الحياة والاستقرار، فالحكومات ترفع شعار "توفير الأمن"، كما الدول الكبرى المؤثرة تتحدث ايضاً على "مسؤوليتها إزاء الأمن العالمي"، وهو ما يتحدث عنه الاميركيون، بيد أن الموجود على ارض الواقع، ليس سوى حروب طاحنة على الحدود، وصراعات سياسية دامية تؤججها هذه الدول المتنفذة ثم تعمل وسيطة لحلها.

ليس هذا فقط، بل نلاحظ كيف أن شعوب مغلوبة على أمرها، مثل الشعب الفلسطيني او اللبناني او الافغاني او اليمني وغيرها من الشعوب المسكونة بحالة اللااستقرار، يعرض عليها الامن مقابل أثمان باهظة؛ مثل القبول بالاحتلال والهيمنة والتنازل عن الهوية والقيم وحتى التاريخ!. بينما هذه الشعوب نفسها كانت تعيش الوئام والاستقرار فيما مضى من الزمن بعيداً عن الحروب والازمات، عندما كان منطلقها "السلام" والتعايش السلمي بين ابناء الأمة الواحدة، ثم بين المسلمين وبين ابناء الديانات والطوائف الاخرى في البلاد الاسلامية، وهذه نصوص عديدة تؤكد حقيقة أن السلام هو الذي وفّر الأمن والاستقرار، ومن دون ذلك المبدأ، يكون الأمن مجرد شعار جميل يسوقه الساسة للوصول الى الحكم.

ولو تأملنا في تجربة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في فتح مكة، وتعامله مع أعدائه المشركين، لوجدنا أن ما جرى في تلك الفترة، يمثل تجربة حيّة ونابضة مع الزمن، تأبى البقاء بين دفتي كتب التاريخ والسيرة، لانها لم تكن مجرد حاثة تاريخية، بقدر ما هو درس بليغ للاجيال ولمن {كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد}.

فبعد أن أنهى النبي أمره مع المشركين، وأسلموا بين يديه، بمن فيهم "أبو سفيان" وآخرين من رؤوس الشرك في مكة، ثم طهّر الكعبة المشرفة من الاصنام والأوثان، عيّن شاباً يُدعى "عتّاب" حاكماً على مكة، وحدد له راتباً بسيطاً قدره أربعة دراهم يومياً، ثم أوصاه بما يلي: "أحسن الى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم".

ثم تجول النبي الأكرم في طرقات مكة، فالتفت اليه بعض اصحابه، بأن "ألا تتوجه الى دارك يا رسول الله!"، فما كان منه إلا أن فاجأ القوم بقوله: "وهل لنا بيت في مكة..."؟! بمعنى أنه، صلى الله عليه وآله، كان مدركاً أن بيته الذي كان يسكنه مع خديجة، ومع ما يحمله من ذكريات عظيمة، فانه بات مسكناً لأناس آخرين، فإن توجه اليه، فانه سيجبر أولئك الناس على الرحيل، وهكذا يفعل سائر المسلمون المهاجرون، والخطوة نفسها طبقها بحذافيرها أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما غضّ النظر عن "فدك" بعد ان وصلته الخلافة "السياسية"، لمعرفته بأنها تحولت منذ سلبها منه، الى مصدر عيش لعدد كبيرة من المسلمين؛ وهنا تحديداً نجد نبوءة جديدة من افكار سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- وهو يحذرنا من خلال "السبيل الى إنهاض المسلمين" ومنذ عام 1981، من أن يأتي اليوم الذي ينقلب الأمر الأمر على أصحاب الحق، ويتمنى الناس زوال اصحاب الحق والعودة الى الماضي الديكتاتوري رغم مساوئه.

الفلوجة والفرصة الجديدة أمام الشيعة

منذ عام 2003 ووصول الشيعة الى الحكم في العراق، لم يتذوقوا طعم الامن والاستقرار، فهم أصحاب الحق الأصليين ومن ضحايا الديكتاتورية الصدامية، بل وضحايا الاستبداد والقمع والتمييز طيلة قرن من الزمن، وبعد تقديم آلاف الشهداء والجرحى وآلاف الارامل والايتام بسبب العمليات الارهابية، يتقدم اليوم الشباب – هذه المرة- لمواجهة هذا الارهاب التكفيري والدموي في عقر داره، ولكن؛ السؤال: هل يجب عليهم أن يواصلوا الدوران في حلقة الأمن المفرغة، ويكونوا رقماً ضمن معادلات سياسية ومخابراتية اقليمياً ودوليا؟

إن أهالي المدن التي يقطنها الاخوة السنّة لا يفهمون من تحركات الحشد الشعبي، إلا ما يرسمه لهم وسائل الاعلام المأجورة من صور كاذبة تثير الاشمئزاز، وتحاكي طباعهم الدموية والوحشية، ومن نافلة القول التذكير بنفس النهج الصدامي في الحرب النفسية خلال الحرب العراقية – الايرانية، عندما كان يلقّنون الجندي العراقي بأنه إن وقع في الأسر سيقتلونه وينتزعون منه أعضائه البشرية قبل ان يسحبون الدم كاملة من عروقه، وهو نفس العمل الذي كان يقوم به أزلام صدام في المعتقلات مع المعارضين للنظام، كما أكدت الوثائق على ذلك.

إن الشيعة في العراق، وبالاستفادة مما لديهم من القدرات والفرص المتاحة حالياً، وبغض النظر عن الاجواء السلبية المحيطة بهم، عليهم ان يستفيدوا من تجارب التاريخ قبل ان يسترسلوا في سيناريوهات الحرب والتوافقات السياسية، فنحن لا نخوض حرب حدود، إنما هي حرب وجود، والتنظيم الارهابي والدموي الذي يرفع شعاراً كبيراً باسم "دولة الخلافة" لابد من سحب البساط من تحت قدميه، فهو يتحدث عن تقديسه النبي الأكرم، وأنهم امتداد له، فاذا طبقنا مقولة النبي الأكرم مع مشركي مكة، في الفلوجة او الموصل او سائر المدن والمناطق الاخرى، كيف سيكون رد فعل "داعش" آنئذ؟.

ربما أقطع أن هذا التنظيم الارهابي يستبعد في توقعاته حصول هكذا مبادرة من الجهة المقابلة، لاسباب لسنا بوارد الخوض فيها، لذا نلاحظه يعزز الروح القتالية والوحشية في صفوف تنظيمه ويحثهم على مواجهة الموت بالموت، ومن لا يرغب بذلك فان مصيره الموت وبأبشع الطرق.

وإذن؛ يجب حرمان "داعش" مما يريد من مبررات الوغول اكثر في دماء الناس وممارسة القتل الجماعي واتخاذ الدروع البشرية وإثارة المخاوف مما يسمى بحالات الانتقام. بل إن اقتناع الاخوة السنة أنفسهم فيما تبقى من المناطق المحتلة في غرب وشمال العراق، بأنهم آمنون في بيوتهم، مهما حصل في السابق، فانهم سيكونوا الذراع الطويل للقوات المسلحة العراقية وللحشد الشعبي ايضاً في اجتثاث "داعش" وطرد جميع التكفيريين والدمويين خارج العراق والى الأبد.

اضف تعليق