q

الإنجاز في السياسة العراقية يقوم على مدى قدرة المتصدين للعمل السياسي في تضليل الجمهور باي وسيلة كانت، فالأمن بالعراق يكاد يصل الى حد الانهيار التام ومدينة الصدر لم تنهي مجالس عزائها نتيجة انفجار سوق عرَيْبة حتى ضربها انفجار في سوق جميلة واخر في حي الأمين وحي الشعب، والتفسير الحكومي الجاهز لهذه التفجيرات هو ضعف داعش وانحسار قوته في جبهات القتال ما اضطره للاعتداء على المدنيين.

يتطرق الدكتور كلود يونان في كتابه "طرق التضليل السياسي" الى كيفية استخدام السياسيين لتضليل الجمهور من خلال تأويل الكلام وحرف مسار الحقيقة عن طريق التلاعب بالألفاظ بواسطة قاعدة "النسبية المتطرفة" بهدف سيطرة الآراء الذاتية المنفعية على الجماهير وذلك للتسلط عليهم وقيادتهم قيادة مضللة، لا تبعا لإرادتهم، بل تبعاً لمشيئة الجهة النفعية التي تريد تضليلهم. "فالسياسي هنا يستخدم التضليل القائم على الراي والظن والمنفعة والمماحكة والتشكيك والتمنيات".

وقديما استخدم السفسطائيون النسبية المتطرفة كقاعدة فكرية للسيطرة على العقول، وانطلقوا منها في خطابهم السياسي المنطوق والمسلوك في شتى ميادين الحياة السياسية في المجتمعات اليونانية، وتدرجوا باستخدام "فن تأويل الشعراء" الى انتهاز هذا الفن مستخرجين منه اليات البلاغة والفصاحة لتصبح بالنسبة لهم تقنيات للتلاعب بالمعاني والالفاظ ليوظفوها فيما بعد بخطاباتهم السياسية. الأداة الإعلامية الامضى والأكثر تأثيرا في ذلك العصر.

وفي إطار الحديث عن التأويل السياسي لا بد من الإشارة الى انه ليس كل تأويل يؤدي الى التضليل انما التأويل المجافي للواقع الموضوعي والمناقض له، فالخطاب السياسي الذي يصف الواقع يجب ان يعكس هذا الواقع ومجرياته كما حصلت لا كما ترتئيه العواطف والمشاعر الذاتية والأيدولوجيات والمصالح.

وبنظرة سريعة على التفسيرات والتأويلات التي تظهر مع كل فشل أمنى في العراق منذ احتلال داعش للموصل وحتى هذه اللحظات (التي لم تعلن فيها الحصيلة النهائية لتفجيرات جميلة وحي الأمين وحي الشعب)؛ نجد ان التفسير الجاهز هو ان داعش تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي في مازق عسكري كبير وان هذه التفجيرات هي دلالة على ضعف داعش، وحتى لا نظلم المحللين الأمنيين والقادة السياسيين فان هذا التفسير فيه نسبة من الواقعية وداعش هو في اضعف حالاته. لكن التضليل الذي يمارس يكون عبر التركيز على هذه النقطة فقط على الرغم من انها تمثل سببا ثانويا.

وبغض النظر عن هذه الأسباب التي أدت الى هذا الفشل الأمني ورغم ان التفسير الواقعي يقول بان كل تفجير يحصل هو دلالة على وجود خلل في المنظومة الأمنية العراقية الا ان محاولة ربط ذلك بضعف داعش هو "تأويلية سيكلوجية" كما يصفها الدكتور كلود يونان، فالنصر الكلامي هو تعويض سيكلوجي عن الخسارة الواقعية التي حصلت. فالأسباب الحقيقة للتفجيرات التي تحدث في العراق كثيرة منها ما يرتبط بطبيعة الصراع القائم بين الطبقة السياسية والشعب من خلال اخافة الجماهير الغاضبة واخضاعها لسلطة الأحزاب الحاكمة ومنها ما يتعلق بتأثير هذا الصراع على عمل الأجهزة الأمنية واهمها: (عدم كفاءة الخطط الأمنية وفشل أجهزة كشف المتفجرات، وضعف الجهد الاستخباري، وخلط العمل السياسي بالأمني، وعدم التزام المسؤولين بالإجراءات القانونية سواء بحمل لوحات تسجيل سياراتهم او خضوعهم لإجراءات أجهزة الامن العراقية، فضلا عن وجود عدد كبير من الفصائل المسلحة خارج إطار أجهزة الدولة تعمل كيفما تشاء).

ويضيف الدكتور كلود يونان في كتابه "طرق التضليل السياسي" الى نقطة مهمة في الواقع السياسي بصورة عامة (أي في الأحوال الطبيعية)، فما بالك بحجم التأويل التضليلي في البيئة السياسية العراقية المتأزمة، فيقول يونان:" إذا كان التضليل التأويلي عبر الكلام بإمكانه ان يضلل النفوس والعواطف، ويهيج الغرائز والانفعالات ويثور الطبقات الشعبية الغوغائية، فان التضليل السياسي أيضا يوظف اليات العلوم المنطقية، وبذلك يشمل الطبقات المثقفة والمفكرة وتلك غير المتعلمة وغير المثقفة، فالجماهير لا يهمها التدقيق في البيانات المنهجية والمنطقية للخطاب السياسي، وليس معها الوقت للتمحيص والتدقيق". لذلك فان التضليل الذي يوظف العلوم المنطقية في الخطاب السياسي لا يمكن كشفه وتفكيكه بسهولة، لان هكذا تضليل يلزمه اهل اختصاص في المنطقيات وفي منهجيات البحث لفضح معالمه.

تظن الأحزاب العراقية بانها تحقق نجاحا باهرا من خلال تضليل الجماهير واختلاق الازمات الجانبية التي تحول مسار الصراع من صراع بين السلطة والشعب الى صراع من اجل الامن، إذ ان الظروف الأمنية غير المستقرة تجعل المواطن ينسى احتياجاته الأساسية، ويبحث عن أي جهة توفر له الامن، لكن استراتيجية الأحزاب بحشر الشعب في زاوية الازمة الامنية غير مجدية على المدى المتوسط والبعيد، فالحقيقة ستظهر للعلن، كما انكشفت أساليب التضليل من خلال استخدام الشعارات الطائفية، والتي أدت الى انتفاضة شعبية على المحاصصة لم تنتهي فصولها لحد الان.

اضف تعليق