q
ملفات - حوارات

الأسئلة المقيمة بيننا دائما وترفض الرحيل

حوار مع الشيخ مرتضى معاش

كل حوار محاولة للتعرف على الاخر، ليس بقصد كشفه، بل اكتشافه.. ولا يكون الحوار مثمرا دون اشعال الحرائق عبر السؤال، ومحاولة اطفائها عبر الأجوبة..

لايشترط بالسؤال ان يكون مريحا، ولا بالجواب ان يكون مسترخيا، لان ذلك من شأنه الا يحقق اهداف المتحاورين من حديث مشترك بينهم..

هذا الحوار حدث لمرات عديدة من خلال أحاديث يومية تقريبا بيني وبين الشيخ مرتضى معاش رئيس مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، او من خلال الملتقيات التي تعقدها المؤسسة كل أسبوع..

الأسئلة المطروحة قد تكون مباشرة، او هي مبنية على استنتاجات لما يمكن ان تكون عليه الأجوبة من ما تناثر من احاديث سابقة.

هناك الكثير مما جرى الحديث عنه لمدة طويلة، ليس بقصد حوار يصلح للنشر يكون بين سائل ومجيب، بل هو حوار يأخذ مما يتقاطع من ازمان العمل وجغرافية المواقع التي تجري فيها وقائع احاديث عابرة او مقصودة..

لكنه في النهاية عند جمع شتاته وماتناثر على سنوات طويلة يمكن ان يكون حوار صدفة، والصدفة أحيانا افضل من المتوقع في حملها للاشياء..

..........

لايقف عند الماضي ولا يرتحل اليه الا بمقدار ماكان ذلك الماضي عبرة وليس مفتخرا كما هو المعنى الذي عبرت عنه واحدة من مقولات الامام علي (عليه السلام).

• حيدر الجراح: هل تعتقد ان العودة الى الماضي بالشكل الحاصل لدى الكثيرين في مجتمعاتنا هي عودة افتخار مجرد من دروس العبر، ام ان هذه العودة نكوص عن حاضر يمكن له ان يرسم مستقبلا اخر غير المستقبل الذي يلوح في الأفق لكثير من المجتمعات؟

- مرتضى معاش: اعتقد ان السؤال فيه شيء من المخاتلة. فليس كل عودة الى الماضي هي استغراق فيه ونسيان الحاضر او تضييع المستقبل.

نعم، نعود الى الماضي لأنه جزء من هذا الحاضر الذي نعيشه، وهو يمكن بما يحمله من دروس وعبر ان يكون بوصلة للمستقبل نهتدي بها.

واختلف معك، حول شكل هذا المستقبل الذي تراه غير محدد الأفق او انه مغلق على أفقه الناهض من ذلك الماضي. ان المستقبل الذي تسير اليه مجتمعاتنا هو جزء من طموح واسع وتطلعات عديدة نحو قيم الحرية والعدالة والمساواة.

• على ذكر تلك القيم، ورغم انها فيها الكثير من الانوجاد الفطري، بشر بها الأنبياء، الا انها بالمقابل احتاجت الى التأصيل لها، نظريات ومدارس. في لحظتنا الراهنة، بعد عنا زمن الرسالات والانبياء، وأصبحت تلك النظريات والمدارس نسترجع تواريخها ولا نستطيع القبض عليها، اين يكمن الخلل، فيها ام فينا نحن؟

- لا يكفي استحضارها كأفكار مجردة، يجب علينا تطبيقها على الأقل كأفراد كما فعل الكثيرون على مر التاريخ وكما يفعل غيرهم في حاضرنا.

المشكلة تكمن في اننا نعاني كثيرا من الإحباط وغياب الإرادة نتيجة بيئات ليس فيها الكثير مما يشجع. لكن النماذج التي طبقت تلك القيم هي ذاتها عاشت في بيئات فيها الكثير من السلبيات والإحباط الا انها نأت بنفسها عن بيئاتها تلك، "ليس بشكل الاعتزال والانعزال"، وامتلكت إرادة الفعل لتغير من واقع الاخرين.

• كل تغيير محكوم بعدد من الشروط، بغيابها لا يمكن تحقق مثل هذا التغيير. صحيح ان هناك الكثير من الأمثلة على تلك الإرادة الفاعلة، لكن المجتمعات سرعان ما تعود الى سابق عهدها فاقدة لكل شيء، ثم تعود للحلم مرة أخرى بالحرية والعدالة والمساواة.. الا تعتقد ان مثل هذا التراجع سيبقى حاكما وانه تحول الى جينات ثقافية في مجتمعاتنا؟

- لا أتصور ذلك. فنفس الجينات الثقافية لو افترضنا صحة انتقالها بهذا الشكل، فلماذا لا تنتقل أيضا تلك الجينات التي تختار قيم الحرية والعدالة والمساواة وغير ذلك بنفس القدر من انتقال بقية القيم السلبية؟

اعتقد ان السبب في ذلك هو الاستبداد والذي غيب مثل تلك القيم ولم يسمح لها بالتراكم إضافة الى غياب القائد الحكيم الذي يمكن ان يقود مجتمعه لاسترجاع تلك القيم عند فقدانها.

• تركز كثيرا في أحاديثك على الاستبداد، هل تعني به الاستبداد السياسي ام الاستبداد الديني وهما الأشهر في تاريخنا وحاضرنا. ام تعني به كل ما يمت الى الاستبداد بصلة حتى لو تلفع بأردية من التحرر والانفتاح؟

_ لا يمكن تصور الاستبداد من خلال النموذجين اللذين ذكرتهما (السياسي–الديني) رغم خطورتهما. هناك الكثير منه في انظمتنا التربوية والاجتماعية والاقتصادية.

نعم الاستبداد السياسي والديني لا يتحقق الا من خلال الاستخفاف بوعي المجتمع الذي يصادره المستبدون تحت شعارات متعددة تتوسل بالدين في كثير من الأحيان.

الم يقل سبحانه وتعالى في وصفه لفرعون (فاستخف قومه فأطاعوه).. هذا الاستخفاف بوعي المجتمع هو اول مقدمات الاستبداد وهو أهمها.

• ما يقدمه المستبدون يمكن تسميته بالوعي الزائف.. لكن الا تعتقد ان جزءا مهما من عمل السياسي هو في تقديم مثل هذا الوعي الى الجماهير. والا كيف يمكن للمستبد ان يستبد دون تزييف وعي هذه الجماهير؟

_ هذه الصورة للسياسة هي بما الت اليها، لكنها غير ذلك. فلدينا سياسة من نوع اخر، وهو نموذج واقعي، رغم ارتهانه للتاريخ، استطاعت ان تؤسس لتجربتها واقصد بها ما مارسه النبي (ص) والامام على (ع) لكن الصورة تغيرت بعد تحول تلك التجربة الى ملك عضوض يتوسل بالدين، او الوعي الزائف بالدين لتحقيق مصالحه.

• لكن جميع التجارب السياسية حتى في الأنظمة الحديثة تخلق اشكالا متعددة من هذا الوعي لدى الجماهير المحكومة، لكننا لا يمكن ان نتهمها بالاستبداد. بل حتى الأنظمة الديمقراطية تمارس مثل تلك السياسة التي تنشدّ الى المصالح أولا على حساب الكثير من القيم الإنسانية.

_ صحيح ذلك في بعضه.. لكن الصورة ليست كاملة بهذا الشكل.. هي لا يمكن ان تكون مستبدة بالشكل الذي عرفته مجتمعاتنا.. فلديها هذا النوع من التبادل للسلطة والاعتراف بالآخر المختلف واحترام اختلافه وتحقيق قسم من العدالة في توزيع الموارد على جماهيرها.. الا انها بالمقابل تمارس استبدادا من نوع اخر وهو استبداد القوانين التي تتعارض مع فطرة الانسان في الحرية الحقيقية والعدالة الكاملة واسمح لي ان استعيض هنا كلمة الانصاف بدلا من المساواة..

وتلك القوانين تستهدف منح حقوق لبعض الافراد مهما بلغ عددهم فانهم يبقون اقلية ناشزة داخل المجموعات الأخرى في أي مجتمع.. وخذ على سبيل المثال قانون زواج المثليين الذي وافقت عليه المحكمة الاتحادية العليا في أمريكا، والذي يتعارض مع ديانات الأمريكيين بغض النظر عن تسمية تلك الديانات.

وغير ذلك الكثير من القوانين والتشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي تجد معارضين كثيرين لها في أوساط تلك المجتمعات التي تسيّرها سياسات المصالح قبل المباديء العليا.

• بالعودة الى الاستبداد في حاضرنا العربي والإسلامي، كيف تنظر الى التجربة العراقية بعد العام 2003، وانت الذي كنت راصدا ومتابعا للنظام العراقي قبل ذلك العام، وكنت متفائلا بان تغيير هذا النظام قادم لامحالة..

- رغم كل السوء في الحالة العراقية الراهنة، الا انها افضل بكثير من حقبة النظام السابق.. ويكفي كمثل بسيط على هذا حوارنا الان وفرص نشره.. ولا يجب عقد مقارنة بين الزمنين من خلال الامن وحده، كما يفعل الكثيرون، لأني اعتقد انها نتاج طبيعي لحالة عدم الاستقرار السياسي التي يعيشها العراق، الذي لا يمتلك ساسته أي تجربة في الحكم وإدارة الدولة..

ولا يعني هذا اني أبرأ هؤلاء الساسة من مسؤولياتهم تجاه ما حدث ويحدث، لانهم يفتقرون الى المعرفة والى الإرادة والحكمة التي يجب ان يتحلى بها كل سياسي يجد نفسه قابضا على السلطة في بلد مثل العراق يعيش فترة انتقالية الى الديمقراطية.

• يجادل الكثيرون بأفضلية الامن على الحرية بجميع اشكالها، الا تعتقد ان هذا الجدال يركن الى تأييد فكرة ان الامن اهم من الحريات حتى لو تحول المجتمع في حالة الامن الى عبيد للحاكم؟

- لكن العكس هو الصحيح.. فلا أمن دون حريات.. اما ما يتوهمه الكثيرون بان الامن في بلداننا يوفر لهم الحرية، فهم مخطئون.. لان هذا الامن المتوهم في مجتمعاتنا هو من ضمن منظومة الحاكم الأمنية التي تسهر على حمايته وحماية النظام.. وهي ليست من ضمن الامن الذي يوفره المجتمع لأفراده حين يكون حرا..

هذا الامن المتوهم يقضم من المجتمع تدريجيا أي حرية لأفراده، فهو يبدأ بحرية التجمع ثم حرية التظاهر ثم حرية التعبير مرورا بحرية التنقل والحركة وحرية الترشح للانتخابات وغير ذلك، طالما هو يشعر افراد هذا المجتمع بان امنهم الشخصي اهم من كل حريات يمكن ان تهدد مثل هذا الامن.. مثل هذا الوهم الأمني هو تهديد للوجود الشخصي للإنسان نفسه..

• برأيك ما الذي يحتاج اليه العراق لكي يتخلص من مشاكله؟

- على العراقيين ان يختطوا طريقا جديدا في رسم الدولة ويغادروا هذا الرسم والتشكيل الذي توارثوه من الدولة العثمانية.. فانا اعتقد ان كل معظم دولنا العربية في المشرق قد ورثت هذا الشكل للدولة، لهذا ترى انها لا تستطيع ان تتحرر من اسر القيود البيروقراطية لتلك الدولة القديمة، إضافة الى وجود دولة عميقة في العراق تكبح أي تطلع لتشكيل طريق جديد، خاصة وان تلك الدولة العميقة قد تحالفت مع مافيات الفساد المستشري في كل المؤسسات الحكومية، والذي اصبح يحظى بقبول اجتماعي كبير..

وأيضا هناك فكرة المركزية البغيضة التي ورثناها من عقود أنظمة الاستبداد الطويلة، والتي تساعد على ظهور الاستبداد وعدم السماح بتفويض السلطات الى الأطراف والهوامش في الحكومة.. لهذا فانا كثيرا ما ادعو الى اللامركزية وتفويض السلطة حتى في ابسط الإدارات والاعمال، لأنها تسمح بظهور قادات جديدة تتعلم على اتخاذ القرارات.

اضف تعليق