q

تحركت قافلة ضخمة من اليمن محمّلة بالمتاع والاموال تحت عنوان "الحقوق الشرعية" وهي متجهة نحو الشام، عاصمة الدولة الأموية، ولدى مرورها بالمدنية، كان لها أصحابها الشرعيون بالمرصاد، فأوقفوها وصادروا ما فيها، وسمح لأهل القافلة بمواصلة مسيرهم لنقل رسالة صريحة الى معاوية تطعن بمصداقيته السياسية وشرعيته في الحكم، وكان كاتب الرسالة هو الامام الحسين، عليه السلام، أعلن فيها ما يمكن تسميته بـ"العصيان المدني" والرفض المطلق لدولة الارهاب والقتل ومصادرة الحريات، وجاء في الرسالة ما يلي:

"من الحسين بن علي، الى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد؛ فإن عيراً مرت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً إليك لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد نهلٍ ببني أبيك، وإني احتجت إليها وأخذتها، والسلام".

في سياق الحديث عن منهج المعارضة التي تبناه الامام الحسين، عليه السلام، في عهد معاوية، لابد من قراءة حذرة ومتأنية للتاريخ بغية الخروج باستنتاجات دقيقة وصحيحة، فلم تكن هنالك حاجة الى الاموال، بقدر ما كانت وسيلة لإعلان المعارضة بوجه النظام الأموي الديكتاتوري، وربما تكون التجربة الثانية والناجحة بعد مصادرة قافلة تجارية لمشركي مكّة من قبل الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، والتي كانت من عوامل تشكّل غزوة "بدر".

قبل كل شيء؛ لماذا المعارضة؟!، تحديد المنطلقات ثم الغايات، أمر غاية في الاهمية تلتزم بها الحركات التي تنشد التغيير الحقيقي، وتضمن من خلالها النتائج المرجوة، وقد تحددت المنطلقات وتبلورت الغايات والرؤى في حركة المعارضة للحكم الأموي، منذ استيلاء معاوية رسمياً على مقدرات الأمة، وانطلاق اول تجربة حكم وراثي في الاسلام وفق قواعد ومناهج خليط من جاهلية الجزيرة العربية، وعقلية الدولة البيزنطينية المحاذية لبلاد الشام، فقد شهد المسلمون لأول مرة، تطبيق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، بعد ان شهدوا عودة الخصال والطباع الجاهلية الى السلوك والثقافة العامة، كالعدوانية والقسوة والاستئثار والانحلال الاخلاقي.

لذا فان المعارضة لم تكن لاهداف سياسية، بقدر ما كانت بمنزلة خط عميق في الارض يمتد مع الزمن حتى وصل الى كربلاء سنة 61للهجرة، وما تحقق من انتصار في واقعة الطف، فهو بفضل تلك الانطلاقة الاولى طيلة حوالي عقد من الزمن، حارب فيها الامام الحسين، على جبهة الكلمة، القيم الجاهلية ومحاولات التزييف والانحراف عن قيم السماء، كما فعل من قبله أخيه وأبيه، عليهم السلام.

ومن أهم القيم المقدسة التي حملها الامام الحسين ، عليه السلام، في مرحلة المعارضة، هي قيمة الحرية، بعد ان أعاد معاوية الى الامة مفاهيم العبودية والتلاعب بالمصائر والاستخفاف بالعقول، ما الترويج لأكذوبة أن الامام علي، عليه السلام، ليس من المصلين، إلا واحدة من محاولات معاوية الناجحة للتحكم بالعقول كيفما شاء، لان الجهل والغفلة عن الحقائق، تخدمه اكثر من العلم والوعي، وإلا لما كان قادراً على تحشيد الآلاف من المقاتلين لحرب أمير المؤمنين، عليه السلام، وكان شعار جيش الشام "الطاعة" لا غير.

هذا في الشام، وفي بعض الامصار التي بلغتها الدنانير والدراهم والامتيازات وفعلت فعلها في عمى البصيرة وشراء الضمير، أما في البقاع المشهود لها بالوعي وتتبع الحقائق مثل الكوفة، فان التغرير والترهيب لم يكن سيد الموقف مطلقاً، وهو ما لاحظه معاوية منذ البداية، فصارحهم بعد حصوله على عهد "الصلح" مع الامام الحسن، عليه السلام، بأني "ما قاتلتكم لتصوموا وتحجوا، فانكم فاعلون، إنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم".

ومن اجل فرض سيطرته على هذه المدينة الملتهبة دائماً، عيّن عليها أقسى وأشد الأمراء آنذاك، وهو زياد بن أبيه، وهو من أكثر المقربين الى معاوية، وقصته في إعلانه بُنوة زياد فجأة امام المسلمين، معروفة في التاريخ، في محاولة لإزالة وصمة العار عن جبينه، وإعداده لتولي مناصب حكومية عالية، فما كان من الاخير إلا أن يرد هذا الجميل الى دعيّه (معاوية) فأوغل في التصفيات الجسدية والمطاردة والتنكيل ضد اتباع أهل البيت، عليهم السلام، في الكوفة.

ولعل من اكبر جرائم مصادرة الحريات وخنق الكلمة الحق، تمثلت في اعتقال الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي واصحابه، ثم قتلهم بتلك الطريقة البشعة في الطريق الى الشام سنة 51للهجرة، ومن أروع مشاهد الرفض والمعارضة التي كان يمارسها هذا الصحابي ضد زياد بن ابيه في الكوفة، أنه كان في المسجد يراقب كلمات الوالي ويظهر الاستنكار والغضب من تخرصاته وتهجمه على أمير المؤمنين، وتزييفه للحقائق، وهو ما كان يلفت نظر زياد، وكلما كان يريد إطلاق الشتم والسبّ، كان يأخذ قبضة من حصى الارض لتحذيره من مغبة التمادي في المساس باسم أمير المؤمين و ابنائه، عليهم السلام.

وعلى هذا الطريق مضى صحابة وتابعون كُثر، ضحوا بانفسهم لإحياء القيم والسُنن الإلهية، مثل عمرو بن الحمق الخزاعي وآخرون قتلوا بأوامر مباشرة من معاوية وليس من زياد واليه على الكوفة، فقد جاء في كتاب "الاحتجاج": "وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: إنهم على دين عليٍّ وعلى رأيه، فكتب إليه معاوية: أقتل كل من كان على دين عليٍّ ورأيه! فقتَلهم ومَثَّل بهم! وكتب كتاباً آخر: أنظروا من قبلكم من شيعة علي واتهموه بحبه فاقتلوه، وإن لم تقم عليه البينة فاقتلوه على التهمة والظنّة والشبهة! فقتلوهم تحت كل حجر حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه..."، وجاء في كتاب "المحبر"، لمحمد بن حبيب البغدادي: "وصلب زياد بن أبيه مسلم بن زيمر ، وعبد الله بن نجيّ، الحضرميين على أبوابهما أياماً بالكوفة، وكانا شيعيين وذلك بأمر معاوية! وقد عدَّهما (أي اعترض بسببهما) الحسين بن علي رضي الله عنهما، على معاوية ، في كتابه إليه: ألست صاحب حجر والحضرميين اللذين كتب إليك ابن سمية إنهما على دين عليٍّ ورأيه...".

هذا غيض من فيض الجهاد الذي خاضه الامام الحسين، عليه السلام، ضد قوى الزيف والانحراف، محاولاً تقويم مسيرة الامة نحو الصلاح والرشاد، وتنبيه الامة الى القيم الحضارية التي تُسلب منها في وضح النهار وتنتهك أمام ناظريهم، علماً إن هذا الجهاد بالكلمة الحق، استمر بها الامام حتى موت معاوية سنة 60للهجرة، فكان يواجه نظام حكم دام حوالي اربعين عاماً في الشام، وملك العقول والاموال والضمائر والنفوس وكل شيء، ويصف المؤرخون تلك الفترة في ارهابها ودمويتها، أن المسلم ليقال له كافر او زنديق أرحم من أن يقال له "شيعي".

مع كل ذلك شقّت المعارضة طريقها في واقع الامة، وبلغت أصدائها الارجاء ونفذت الى القلوب فكان التأثير بليغاً، وإن لم يسجل التاريخ لنا شواهد على ذلك في الفترة التي سبقت واقعة الطف، بيد أن المواقف التي قفزت على مسرح الاحداث في كربلاء الحسين سنة 61للهجرة، تكشف عن حجم وقيمة النتائج العظيمة لتلك المعارضة الحسينية – إن صح التعبير- وإلا من كان يصدّق ان يلتحق بمعسكر الامام الحسين، شخص مثل زهير بن القين، المعروف بأنه "عثماني الهوى"، والذي كان يتجنب مصادفة الامام في الطريق؟ ومن كان يصدق – آنذاك طبعاً- ان يتحول ضابط كبير في جيش الكوفة، مثل الحر، الى معسكر الامام الحسين، وهو مدرك بنهاية المعركة وأنه مقتول بعد ساعات؟.

إن نداءات الامام بإحياء قيمة الحرية وقيم انسانية اخرى وسط الميدان بكربلاء، كانت امتداداً لمسيرة المعارضة الجهادية في السنين الماضية، وهي نفسها التي شقت طريقها في النفوس بعد الواقعة وانتجت وعياً عميقاً وحراكاً واسعاً في الامة أطاح بالحكام والولاة، الأمويين منهم، والعباسيين، ومن جاء بعدهم، وهكذا المسيرة متواصلة، والتجربة غضّة طرية لكل حركة معارضة تنشد التغيير الحقيقي في الأمة.

اضف تعليق