q

حينما يبحث الإنسان في ثنايا التاريخ يجد هناك عباقرة، وعظماء، استطاعوا أن ينالوا درجة المجد وتمكنوا من أن ينشروا عبير الخير والتقوى على جبين المجتمع، وفعلا لقد أدى هؤلاء العباقرة رسالتهم، التي كلفوا بتبليغها إلى البشرية، وعندما يقرأ الإنسان سيرة حياتهم ويدقق في الصفات الحسنة التي يمتلكونها، نجد أن هؤلاء العظماء اقتدوا بأحد الصالحين، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في صريح الآية الكريمة {ولكم في رسول الله أسوة حسنة} فجعله (ص) أسوة وخير قدوة يقتدي بها المسلمين.

المتتبع لسيرة الرسول الكريم (ص) وخصوصا في جانب الرحمة بين الناس، بلا شك يعجز عن الوصف الكامل لهذه السيرة، فقد كان منبع الرحمة الإلهية حتى مع اعدائه ومبغضيه.

صفات نبوية خالدة

ضحوك السن أشد الناس خشية وخوفا من الله، وما ضرب امرأة له ولا خادما، يسبق حلمه غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، أحسن الناس خلقا وأرجحهم حلما، وأعظمهم عفوا، أشجع الناس قلبا وأشدهم بأسا، يخالط أصحابه ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ولا يدعوه أبيض ولا أسود من الناس إلا أجابه، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه ولا مقدما ركبتيه بين يدي جليس له قط يدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي خفف صلاته، أكثر الناس شفقة على خلق الله وأرأفهم بهم وأرحمهم بهم أوصل الناس للرحم وأقومهم بالوفاء، وحسن العهد يأكل على الأرض وقال آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد.. خافض الطرف ينظر إلى الأرض، ويغض بصره بسكينة وأدب، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء لتواضعه بين الناس، وخضوعه لله تعالى .

يقم البيت ويجلس ويأكل مع الخادم ويحمل بضاعته من السوق لا يجمع في بطنه بين طعامين أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا. وأسخاهم لا يثبت عنده دينار ولا درهم لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه.

يجلس على الأرض ينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير ويطحن مع الخادم، ولا يجلس متكئا ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم ولم يتجشأ قط.

يقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها ولا يأكل الصدقة، ولا يثبت بصره في وجه أحد يغضب لربه ولا يغضب لنفسه وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد لا يلبس ثوبين يلبس بردا حبرة يمنيه وشماله وجبة صوف والغليظ من القطن والكتان وأكثر ثيابه البياض ويلبس القميص من قبل ميامنه.

وكان له ثوب للجمعة خاصة وكان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن ويكره الريح الردية ويستاك عند الوضوء، ويمشي راجلا ويشيع الجنائز ويعود المرضى في أقصى المدينة، ولا يجفو على أحد.

يقبل معذرة المعتذر إليه وكان أكثر الناس تبسما، لا يشتم أحدا بشتيمة ولا لعن امرأة ولا خادما بلعنة، يجزي السيئة بالحسنة ويغفر ويصفح يبدأ من لقيه بالسلام وإذا لقي مسلما بدأه بالمصافحة وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله. كان الرسول كثير الحركة يزور القبائل ويجتمع بالناس ويرشدهم، يتفقد أحوالهم، يعود المرضى، ويقضي حوائج المحتاجين.

نماذج من أخلاق الرسول

(وأنك لعلى خلق عظيم)

بنى (صلى الله عليه وآله وسلم) ملجأ في المسجد نزل فيه الذين من لا مأوى لهم. وقد وصل عددهم كما في التواريخ إلى أربعمائة فقير.

وفي غزوة أحد تعرض الرسول الى كسر رباعيته، وشج وجهه من قبل جهال قومه، ولكنه قابل كل هذا الأذى بأسلوب لم تعهده العرب من قبل وهو أسلوب الرحمة والعفو، ولم يكتف الرسول بالعفو عنهم بل الدعاء لهم بالهداية فقد كان يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون. يطلب من الله الهداية بعدما اذاقوه أنواع العذاب النفسي والجسدي، بدءاً بتكذيبه ونعته بنعوت كاذبة إلى رمي الاشواك والاوساخ في طريقه، وقد كان بإمكان الرسول أن يقضي عليهم ولو دعا الله تعالى أن يجتثهم لاجتثهم جميعاً لكنه مع كل ذلك كان يدعو لهم بالهداية .

فأي قلب هذا وأي إنسانية انطوى عليها رسول الله بهذه الأخلاق وغيرها بقي الإسلام حيا في ضمائر الناس والتي جعلت اعدائه يطمعون في عفوه وصفحه، وهذه الأخلاق وهذه السيرة ليست مع قومه فقط وإنما مارسها مع اليهود أيضاً، وهو القائل أدبني ربي فأحسن تأديبي .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

إن الرحمة صفة من صفات الله تبارك وتعالى، ومن عظيم رحمة الله أنه من ينشر رحمته في أرضه، رحمةً للبشريَّة كلها، فكان الرسول الرحمة المبعوثة من السماء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. الرحمة في حياة رسول الله لا تعد ولا تحصى، ولننظر إلى رحمته بكبار السنِّ والأطفال؛ فعن رسول الله أنه قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا" فقد شملت رحمة رسول الله الكبار والصغار، والرجال والنساء، والقريب والبعيد، بل الصديق والعدوَّ، كما أنها كذلك ليست محدودة بمكان أو زمان، وإنما هي لكل العالمين منذ بعثته إلى يوم الدين؛ لذلك نجده يُعَلِّم أُمَّته خُلُق الرحمة قائلاً: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ".

فما أعظم هذا المجتمع الذي ربَّاه النبي ليتراحم الجميع فيما بينهم امتثالاً لأقواله .فكانت رحمة رسول الله عامَّة للناس جميعًا، ولننظر إلى حديث رسول الله كثيرًا ما يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاة فهذه رحمة غير مسبوقة، لا يماثلها أو يقترب منها رحمة في العالم.

عفو رسول الله عن المخطئين

ونجد رسول الله عطوفا رؤوفا بالمخطئين، الذين جاءوا يعترفون بذنوبهم، فيأتي لرسول الله لعلَّه يرفع عنه ما أسرفه على نفسه. وسيرته مليئة بالشواهد الدالَّة على ذلك. عفا عن المرأة اليهودية التي وضعت له السم، وعفا عن قاتل عمه الحمزة، وعفا عن هند امرأة أبي سفيان التي أمرت بقتل الحمزة وشق صدره وإخراج كبده، حتى سميت بآكلة الأكباد، وعفا عن أبي سفيان رأس الشرك والضلال، هكذا كان رسول الله يعامل الناس حتى أخرجهم من الظلام الدامس الذي كانوا يعيشون فيه القتل والسبي والظلم والتشرد إلى نور الساطع الذي كشف كل ذلك وازاله.

رحمة رسول الله مع الأسرى

كما تجلَّت مظاهر الرحمة في تعامل رسول الله مع الأسرى؛ فها هي سفانة ابنة حاتم الطائي التي أُسِرت في حرب مع قبيلة طيِّئ، فجُعِلَت في حظيرة بباب المسجد، فمرَّ بها رسول الله ؛ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلة فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد. فامْنُنْ علَيَّ مَنَّ الله عليك... فقال رسول الله : "قَدْ فَعَلْت. فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إلَى بِلادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي".

تقول ابنة حاتم الطائي: وأقمْتُ حتى قَدِمَ رَكْبٌ من بَلِيٍّ أو قضاعة، وإنما أُرِيد أن آتي أخي بالشام، فجئتُ فقلتُ: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغ. قالت: فكساني، وحَمَلَني، وأعطاني نفقة، فخرجتُ معهم حتى قَدِمْتُ الشام.

هذا التعامل الإنساني الرحيم من رسول الله لها أن تخرج منفردة وحيدة، بل طلب منها ألاَّ تتعجَّل بالخروج حتى تجد من قومها مَنْ يكون ثقة فتسير معه. مع هذه الأسيرة.

رحمة رسول الله بالحيوان

بل إن رحمة رسول الله تجاوزت البشر لتصل إلى الحيوان، من الدوابِّ والأنعام، والطير والحشرات، فنرى في سيرته الرحمة، ولننظر إلى رحمته بعصفور! حيث يقول رسول الله: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ".

فما أروعها من رحمة تمسح الآلام وتخفِّف الأحزان. ومع هذه الشجاعة العظيمة كان لطيفا رحيماً فلم يقابل السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح " لقد أدبني الله فاحسن تأديبي".

وقال الامام الصادق عليه السلام: "ان الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: وانك لعلى خلق عظيم .

اضف تعليق