q

ليل المدينة يزخر بالنجوم، زنزانة سوداء، من فيها لا يعرف الليل من النهار، جسد هزيل، عظام مكسوة بالجلد، وعيون غائرة هناك حيث لم يرَ شيئا سوى ما وراء ذلك السراب. لم يعرف للراحة سبيلا ولا منفذا، جفا النوم مقلتيه، فظلتا مشرعتين متعبتين من ظلام الزنزانة، مــا عسعس الـلـيل ولا تنفس الصبح، ترتخي عظامه لتستوطن الأرض، يتلاطم فيه الحزن ولا ينجو من التعذيب، معلق بين زوايا الزنزانة، أنين الأحداق .

يترقب سواد الليل ليرحل في مناجاته، يرتفع رويدا، الاصوات تواشيح ليرتل آيات الكتاب، كنتُ جالساً في الطرف القريب من باب السجن، أنظر إليه حيثُ جلب إنتباهي بشكل غريب، سجينا يقرأ القرآن ويختمه في اليوم، يسجد سجدة تربط بين الظهر والعشاء، تركتهُ ساجداً على الأرض، وظللت احدق بشكل غريب الى جهةٍ معينة من تلك الزنزانة، في البداية جاء الى ذهني صور كثيرة وأنا أنظر الى هذا الجسد المسجى على الأرض دون أن يهتم أحد من الحرس بوجودهِ هناك. تقدمتُ صوب الزنزانة بطريقة غاضبة، وقفت قرب السجين، الغريب أنه كان ساجداً، فيما تنطلق الدعوات من أعماق الذات، كنتُ أشاهد بريقاً لامعاً ينطلق من سماء السجن الى قاع الأرض حيث سجوده، إستدرت للعودة الى مكاني الذي كنت أجلس فيه، كان صوته ناعماً جداً.

الانتصار على الذات

بلا تردد جلستُ على بعد مترين أو أكثر لا أعرف بالضبط، ذلك المكان كان قطعة من الجنة، توسدت الأرض مهداً ومستقراً له، صار صعباً علي أن أعذب هذا السجين، وقف يصلي صلاة حارة تلامس برفق حنايا القلوب، ظل صوته يتردد في خلايا مسمعي ويلاحقني أياما طويلة حتى اتخذت قرارا شجاعا مليئا بالدموع وآلام البعاد والانتصار على الذات، وعدت أراقبه من خلف ستار الزنزانة، اراه في كل مرة يتهجد حزينا، وحينما نفد صبري وأعيتني قدرتي على التحمل سألت أحد الحراس، والنيران تحرق صدري:

- من هذا؟ وما ذنبه؟

أجاب احد الحراس: هذا السجين جاؤوا به من البصرة، مقيّداً بالحديد، تحف به الشرطة. مسرعين نحو السندي بن شاهك، أخذه وسجنه، ووكلني علية اقفل عليه عدة إقفال، فإذا قضيت في حاجة وكلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتى ارجع. وهو مقيد بثلاثة قيود من الحديد وزنها ثلاثين رطلا.

- ومن أي قبيلة هو؟.

- يرجع نسبة إلى رسول الله .

- ويلك من نسب الرسول ويسجن!..

اشتد عليّ أمري؛ مكتفي بالصمت ومواراة الدمع في عيني. الظلام ما يزال يغمر بغداد، أما لهذا الظلام من نهاية؟.

هيمن سكون مهيب ملأ السجن برهبة الساعات الأخيرة من الليل.. وما يزال العبدُ الصالح ساجداً، ببدنه النحيف كأنه ثوب مطروح.

دقّات عنيفة تمزّق صمت الليل، وقد وقف حرّاس غلاظ بوجوههم المتجهّمة؛ تشتعل في عيونهم رهبة الملك وسطوة الجبابرة، هبّ الحارس من نومه فدسّ له سُمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: زِد على ذلك، فرمقه الإمام بطرفه وقال له: «حَسبُكَ، قد بَلغتُ ما تحتاجُ إليه» (2).

وتفاعل السمّ في بدنه (عليه السلام)، وأخذ يعاني الآلام القاسية، وقد حفّت به الشرطة القُساة، ولازمه السندي، وكان يُسمعه مُرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليُعجّل له النهاية المحتومة.

بعدها سمعت أصواتهم تتعالى، كنت أستمع لكل ما كان يحدث، كنت أفقد صوتي مع كلّ صرخة. وعبثاً حاولتُ الصراخ طلبا للمساعدة، غاب صوتي بشكل مفاجئ هكذا، حين حاولت الركض أحسست بأن قدمي أصبحتا ثقيلتين جدا. لم يعد بإمكاني التحرك ولا الصراخ. حتى الدموع تحجرت فجأة في عينيّ، جلست وتكومت حول نفسي وعواصفٌ من الألم كانت تفتك بي داخليا، غبتُ عن المكان والزمان عن الحدث عن كل ما كنت قد رأيت للتو.

اغرقت روحي بالدموع، غادر الحارس المكان، وقد خيم خوف رهيب.

فرعون وهارون

فرعون.هارون. بموكب فخم يعبر «جسر النساء» يتوقف أمام ساعة كبيرة فُرغ من صنعها حديثاً.. ساعة عجيبة تحكي قصة الوقت لزمن نحاسي.. ومن يُمعن النظر إليها يجدها تتألف من اثني عشر باباً صغيراً بعدد الساعات. وكلما مضت ساعة انفتح باب، وخرجت منه كرات نحاسية صغيرة تتساقط فوق جرس فيرنّ بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة، وعنده تظهر تماثيل صغيرة لاثني عشر جندياً على خيل تدور على صفحة الساعة، انه زمن النحاس، زمن الثراء والغناء، والليالي الحمراء..

رحلّ السلام.. وحلّ في الأرض خوف ورعب ودماء.

لقد بدأت ساعة الصفر، وبدأ القتل.

لم يذق طعم الراحة في تلك الليلة بعدما بعث الى العبد الصالح السم .

يكاد رأسه أن ينفجر، يشرب الخمر، ولكن لا جدوى، الهواجس القاتلة التي تأكل في رأسه كحشرة. ساعة يضع كفّه على جبينه، وساعة يكاد يحطم جمجمته، متوترا ، عصبياً، يكاد أن يغرق في الخمر، لينسى كل همومه.. ينسى السجن والتعذيب.

هارون بين القصور الملكية لكنه فقد الأمان، وموسى في زنزانة سوداء وعنده الطمأنينة والسلام. زها السجن بوجوده، كظَمَ الحزن. كظم الغيظ، في عينيه تطوف الغربة، هو الذي ذرّف سبع سنين من عمره في سجن هارون.

شارفت الأيام على الانتهاء، فقدت الاشياء توازنها، بدأت رياح الغدر تفوح من هارون، لذلك قرر أن ينهي هذه النار التي اوقدها على نفسه. ولم يَعُد أمامه إلا السم. كما فعل أجداده. ليس بالأمر العجيب.. إنه يدس السم، فلو قدر له لفعل كما فعل يزيد، أن يخفي آثار موسى من الأرض ومن صفحة التاريخ، خشية من سماع أفعاله، بقتلة موسى ابن جعفر في سجن السندي، شرب السم .

في يوم الجمعة 25 رجب 183ﻫ، تجتمع الهموم بعد افتراقها، وتتلاقى الأحزان في مهدها عندما توقفت أنفاس الإمام، خطوات سائرة نحو الزنزانة، أتفقد مناجاة، وجدت قطعة ثوب مسجى واشرعة محلقة في سماء الكمال. ضجيج ملأ القصر، وصل الخبر إلى هارون بأن عملية السم قد نفذت وقتل موسى بن جعفر. أمر أربعة من الحرس أن يكتموا الخبر، ويحملوا جثمانه إلى جسر بغداد.

قبل فترة وجيزة أعلن الإمام عن موعد استشهاده حتى قال لهم أن الموعد يوم الجمعة عند جسر بغداد .

الناس ينتظرون بفارغ الصبر متى يأتي الإمام، ولكن لا أحدا منهم يجرؤ على التقدم، تماما كما عجز كل منهم عن الدفاع عن الإمام. وجدوا جنازة سألوا من صاحبها؟ قالوا من هو خير الناس أما وأبا. هذا إمام الرافضة موسى ابن جعفر .

خرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان الإمام الكاظم (عليه السلام)، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع. وسارت مواكب التشييع في شوارع بغداد وقد سادها الحزن، حتّى انتهت إلى مقابر قريش في بغداد، فحُفِر للجثمان العظيم قبر فواروه فيه. وهو ما نراه اليوم تلك المنارة والقبة الذهبية .

سمعت دعاء له في السجن

(يا مخلص الشجر من بين رملٍ وطينٍ وماءٍ ويا مخلص اللبن من بين فرثٍ ودمٍ ويا مخلص الولد من بين مشيمةٍ ورحمٍ ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ويا مخلص الروح من بين الاحشاء والامعاء خلصني من بين يدي هارون).

انتهت رحلة موسى مع فرعون عصره بنصر وإثبات، وبقيت حياته خالدة بالمواقف والصبر فلا السجن قيده ولا السجان .

اضف تعليق