q

أصبح من الصعب التعامل مع موضوعة الأمن الوطني في العراق بالشكل الذي نراه اليوم من دون الربط بينه وبين المحفزات الاقليمية والدولية فضلاً عن المعطيات العقائدية الداخلية التي تشكل حيزاً للترابط المادي، والتي ساهمت بمجملها في بلورة النمط الجديد للتطرف المحيط بدائرة الأمن الوطني الشامل، فالانتقال الفكري الثالث من الهجرة والجهاد الى القاعدة وصولاً الى داعش يعطي تصوراً واضحاً عن أنماط التفاعل بين هذه الجماعات وبين المتغيرات المحيطة بالبيئة والتي بنيت على أساسها نمط التفسير لحركة وسلوك المتغيرات المادية والموضوعية، كما وأنها تعطي تصوراً جديداً عن التحولات الجيوستراتيجية التي تستهدفها الجماعات الجهادية والتي رسمت من خلالها خارطة لمجال نفوذها والمناطق التي تتعامل معها بمنطق الخلافة الاسلامية.

أمام هذا التوصيف كان ينبغي أن تكون لدى صانع القرار رؤية لما يتوجب فعله حيال التطورات في سوريا من جهة والسعودية من جهة ثانية، ففي سوريا كان التنظيم يمارس خيارات ستراتيجية حيوية مرتبطة بالارتباط جغرافياً مع العراق كمجال حيوي لنفوذها ومرتكزاً لها في نشوء الدولة الاسلامية، أما بالنسبة الى السعودية فقد كان لمنطق التعامل الجديد مع الجماعات الداعمة للإرهاب عبر قانون مكافحة الجماعات الارهابية والممولة له ذو أثر مهم في هذا الجانب والذي يمثل حالة من الانتقال الجزئي في الأولويات الاستراتيجية.

وعلى الرغم من صعوبة الخيارات الاستراتيجية لتعامل المخطط الاستراتيجي مع البيئة الستراتيجية سيما والتأرجح بين خيارات التوازن فان العراق شرع بالتوجه نحو البيئة الاقليمية مع اعتماد استراتيجية عسكرية من نوع جديد مرتكزة على ضمانات الحشد الشعبي والتحالف الدولي بالإضافة الى القوى الأمنية، ويبدو إن خيار الدبلوماسية تجاه الاقليم كان نتيجة للفوضى المحاطة بصانع القرار والذي جعل من البيئة الاقليمية مجالاً للتسوية وإدارةً الموقف بدلاً من الانخراط في فوضى الداخل.

ملامح مركبة والتزامات غامضة

أمام جميع هذه المعطيات المتداخلة والمعقدة يبدو ان خيارات التحرك الاستراتيجي لقوى التحالف الدولي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة ذات دلالات مركبة، فالولايات المتحدة تتعامل مع تنظيم داعش من مفترق طرق بين التعامل مع الرئيس بشار الأسد ضد التنظيم وبين جعل التنظيم أداةً للقضاء على النظام، فعلى الرغم من الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة مع العراق الا ان مكانة سوريا الاقليمية بوصفها الطرف الرابط لمحور الممانعة والمرتكز الأساسي لها جعل منها القضية الأساسية لمناقشات الكونغرس حول استراتيجية الرئيس "أوباما" فضلاً عن كونها المحدد لاستراتيجية التحالف الدولي بهذا الشأن. وهذا مادفع وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى التصريح بعدم جدوى عمليات التحالف الدولي ضد داعش.

وأمام هذا التركيب المعقد بين القضاء على تنظيم داعش وبين استمرار النظام السوري بقيادة بشار الأسد أصبحت الولايات المتحدة ودول التحالف أمام خيارات مركبة ومتناقضة في بعض الاحيان، حيث قد تكون أمام خيارات غير حاسمة للحرب مع الارهاب وهذا ماعبرت عنه ايران منذ بداية الاجتماع الدولي في فرنسا للعمل باستراتيجية ضد التنظيم في العراق وسوريا، فضلاً عن إن هذا الواقع كان له انعكاساً واضحاً على سياسة العراق الجوية بشكل أساسي حيال التنظيم حيث تحددت الخيارات أمام صانع القرار منذ مباشرة التحالف الدولي لعملياته في العراق وسوريا وأصبحت الالتزامات الدولية ضاغطاً على عملية التخطيط الامني مما قد يجبر العراق على تبني خطوط بديلة للتعامل مع هذه المواقف إذا ما إستمر الحال على ما هو عليه والتي كانت من أبرزها الدبلوماسية الجديدة حيال المنطقة.

دبلوماسية العراق: إدارة أم وساطة

أمام جميع هذه المعطيات والانتقالات في الفكر والعقيدة جاءت الدبلوماسية العراقية فاتحة نهجاً جديداً من التفاعلات في محيطها الاقليمي، فالبحث عن منحى جديد للعلاقات ومساعي الخارجية العراقية الى ايجاد بيئة تعاونية معها ساهم في تغيير مجرى السياسة الخارجية عن عهدها السابق مع اضافة اشكالية تتمحور في نوعية هذه الدبلوماسية وتصنيفها ضمن نطاق الادارة أم الوساطة.

ومن الناحية النظرية تعد القدرة والمقومات الاستراتيجية أحدى مصادر التمكّن في ادارة الدور الاقليمي، فالعراق ومنذ 2003 لم يتمكن من التعامل مع توازنات المنطقة لصعوبة الانخراط في حلف دون آخر وهو ما جعل الحكومة العراقية تتجه نحو الاعلان والالتزام بسياسة الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للجوار الاقليمي مع ادراك قادته السياسيين من البرلمانيين والحكوميين ان معظم الاطراف الاقليمية تمارس أدواراً في داخل العراق وتسعى الى خلق قنوات تستهدف من خلالها مصالحها الوطنية عبر توظيف التعددية وضعف التوافق الوطني.

ورغم جميع ذلك انتهجت الدبلوماسية العراقية في ظل الحكومة الخامسة ومنذ يومها الأول دبلوماسية تعاونية عالية المستوى استهدفت تغيير القناعات السابقة وانتاج تعريف جديد لمكافحة الارهاب سيما مع السعودية والكويت التي لم تكن تحظى العلاقات بينهما في السابق الا بتبادل الاتهامات، ويبقى أمام جميع هذه المعطيات اشكالية التمييز فيما تستهدفه الدبلوماسية وهل سنكون أمام ادارة أم وساطة توفيقية مؤقتة كنتيجة لتهديدات جماعات داعش.

وإذا ما سلمنا بصعوبة الادارة الاقليمية بالمرحلة الراهنة فان من شأن الوساطة التوفيقية التي تتبناها الحكومة العراقية أن تقلص من حجم التهديد وتزيد من حجم الشراكة الاقليمية وهذا ما سيجعل مخططي استراتيجية الشؤون الخارجية أمام منحى التعاون المؤقت حيال العراق بدلاً من الصراع بيد إن المهم في هذا الشأن هو مدى استعداد قادة العراق لمرحلة ما بعد الحرب.

وأمام جميع هذه المعطيات فان عدم امكانية العراق من تحقيق مقاربة بين أطراف الصراع الاقليمي فان الأمر قد يتجه باتجاه البقاء على الوضع الراهن مع مساعي طرفي الصراع الى خلق مناطق نفوذه بشكل أكثر استقراراً من خلال ربط مصير المحفزات الداخلية بالردع وهذا ما يستبعده الاستراتيجيين في الوقت الراهن بسبب فاعلية الدبلوماسية العراقية فضلاً عن غطاء الدعم الدولي الذي حظي به العراق في حربه ضد تنظيم داعش.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث/المنتدى السياسي
http://mcsr.net

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق