q

ريكاردو هوسمان

 

كمبريدج ــ تُرى كيف يمكننا تحسين أوضاع العالم؟ كيف يمكننا أن نجعل الدول أكثر قدرة على المنافسة، وتحقيق النمو الأكثر استدامة وشمولا، وتعزيز المساواة بين الجنسين؟

ربما تتلخص إحدى الطرق في الاستعانة بنظرية صحيحة تحكم العلاقة بين الأفعال والنتائج ثم تنفيذ الإجراءات التي من شأنها أن تضمن تحقيق النتائج. بيد أننا في أغلب المواقف التي نواجهها، نفتقر إلى مثل هذه النظرية، أو إذا وجدنا النظرية فربما لا نكون على يقين من صحتها. ماذا نفعل إذا؟ هل ينبغي لنا أن نؤجل العمل إلى أن نتعلم حول ما قد يصادف النجاح؟ ولكن كيف نتعلم أذا لم نعمل؟ وإذا عملنا، فكيف نعلم ما إذا كنا فعلنا الصواب؟

تلقي التطورات الجديدة في التعلم الآلي والأنثروبولوجيا البيولوجية الضوء على كيفية حدوث التعلم وما الذي يجعل عملية التعلم ناجحة. ولكن برغم أهمية النظريات، فإن أغلب ما نتعلمه لا يعتمد عليها.

على سبيل المثال، ربما تكون هناك نظرية حول ما يجعل القط قطا، ولكن هذه ليست الطريقة التي يتعلم بها الطفل الصغير كيف يدرك الأشياء. فكما يقول ليزلي فاليانت من جامعة هارفارد في كتابه الصادر عام 2013، نحن نتعلم مفهوم "كون القط قطا" بطريقة لا نظرية من خلال الاستدلال على ذلك بالاستعانة بمجموعة من صور الحيوانات التي تحمل بطاقات التسمية المناسبة سواء لقطط أو غير قطط. وكلما اطلعنا على المزيد من الأمثلة، كلما اكتسبنا قدراً أكبر من "الصواب المحتمل التقريبي".

ونحن نتعلم كيف نتعرف على اللغة المنطوقة من دون الإلمام بعلم اللغويات، كما يطبق برنامج التعرف على الأصوات خوارزمية تعلم لا نظرية تسمى "سلسلة ماركوف المخفية" على مجموعة من التسجيلات الصوتية والنصوص، وليس باستخدام علم اللغويات، كما يخبرنا راي كورزويل في كتابه "كيف تنشئ عقلا". وبرغم ما قد يحمله هذا من إزعاج لكثير من الأكاديميين من أمثالنا، فإن النظرية يمكن الاستغناء عنها غالبا.

ويستند التطور البيولوجي أيضاً على خوارزمية لا نظرية، وهي الخوارزمية التي تتعلم أي الأنماط الجينية تعمل على توليد الأفراد الأفضل تكيفاً من دون وجود نظرية حول أي التغيرات في الجينوم من شأنها أن تعمل على تحسين الأداء. فهي تستخدم التغاير العشوائي وانتقاء الأصلح، مراراً وتكرارا.

وفي حين يستغرق التطور البيولوجي من خلال التكاثر الجنسي أجيالا، فبوسعنا أن نتعلم من بعضنا البعض بسرعة أكبر كثيراً من خلال التطور الثقافي، وهو ما يفسر لماذا حقق البشر كل هذا التقدم. ووفقاً لروبرت بويد، وبيتر ريتشرسون وجوزيف هنريك، تشكل قدرتنا على التقليد صميم نجاحنا كنوع. وهي التي تجعل التطور الثقافي ممكنا، وتراكميا، وقويا. وهي التي تسمح لنا بالتعلم من الآخرين ثم إحراز التقدم بسرعة أكبر مما لو كنا نتعلم من أنفسنا. بالإضافة إلى هذا، ولإن التقليد، مثله كمثل النسخ الجيني، ليس كاملا، فنحن نكتشف بالمصادفة سبلاً أخرى للقيام بنفس الشيء (أو حتى أشياء جديدة وأفضل).

نحن البشر مجهزون لتقليد الآخرين، ونحن نفضل بشكل خاص تقليد الأكثر نجاحاً بيننا. وهو أمر منطقي من الناحية التطورية، لأن سمات الناجحين من الأرجح أن تكون متصلة بنجاحهم مقارنة بالآخرين.

ولكن هذا ربما يقودنا إلى ارتكاب أخطاء عندما لا يكون ما نقلده مرتبطاً بالنجاح. وقد استغلت صناعة الإعلان نقطة الضعف هذه فينا، فجعلتنا نتصور أنه إذا كان جورج كلوني رائعاً ويرتدي شيئاً ما، فربما يمكننا أن نصبح رائعين بارتداء نفس الشيء الذي يرتديه.

وبشكل أكثر نفعا، يستخدم عالم الأعمال التقليد من خلال ممارسة المقارنة المرجعية، حيث تتقاسم الشركات المعلومات عن الأداء حتى يتسنى لها أن تتعلم جميعها ما هو قابل للتحقق وأي منها ينبغي تقليده، وبالتالي يصبح من الأسهل تحديد "أفضل الممارسات". فلكي تتحسن، يمكنك أن تبدأ بتقليد ما تفعله الشركات الناجحة، من دون الاستعانة بنظرية جيدة تفسر لماذا.

وتنتقل ممارسة المقارنة المرجعية إلى ساحة السياسات، بما في ذلك ما يتعلق بقضايا مثل التنمية المستدامة، وبيئة العمل، والقدرة التنافسية، والمساواة بين الجنسين، ومؤخرا، النمو الشامل. وتعمل بعض هذه التطبيقات على خلق قياسات جيدة للأداء، فتسمح للمستخدمين بتقييم النتائج وتتبع التقدم.

ومن الأمثلة الجيدة على ممارسات المقارنة المرجعية هذه المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي أو مؤشر التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة. وهي لا نظرية لأنها لا تنبئك بكيفية تحسين الأداء؛ ولكنها تنبئك بما إذا كنت تتحسن ــ بمعنى أنها تبلغك عن التغيرات في "اللياقة".

وفي اعتقادي أن مؤشرات أخرى تخلط بين مقاييس الأداء ومقاييس الأسباب الافتراضية للأداء. فهي تخلط بين "ماذا" و"كيف"، كما تضع الاثنين على نحو غير لائق في المؤشر. وتحاول أن تكون مدفوعة بالنظرية بشكل أكبر مما تسمح به معرفتنا.

من الأمثلة على ذلك مؤشر التنافسية العالمية التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، ومؤشر النمو والتنمية الشامل الجديد التابع له أيضا. على سبيل المثال، ترتبط التنافسية بالقدرة على زيادة حصة السوق من دون التضحية بالهوامش أو خفض الأجور، وهو ما يعكس الإنتاجية المتفوقة. وترتبط شمولية النمو بالفوارق في الدخل والنمو عبر مناطق وفئات اجتماعية مختلفة.

ولكن هذا ليس ما تقيسه هذه المؤشرات حقا. فالمؤشرات تشمل متغيرات ــ ما تشير إليه بوصف "حيز السياسات" ــ والتي من المفترض أن تؤدي إما إلى اكتساب القدرة التنافسية أو النمو الشامل. ولا يراجع القائمون على حساب هذه المؤشرات حتى ما إذا كانت تفعل ذلك حقا. (في حالة القدرة التنافسية، وجدت أنا وزميلي أنها لا تفعل).

الواقع أن الخلط بين "ماذا" و"كيف" ممارسة هدّامة. وقد قاد هذا الخلط دولة تلو الأخرى، بما في ذلك كولومبيا والمكسيك والمغرب والمملكة العربية السعودية، إلى محاولة تحسين ترتيب قدرتها التنافسية من خلال العمل على أشياء واردة في المؤشر ولكنها لا تعمل حقاً على تحسين أدائها. وقد تأخرت هذه البلدان في اكتشاف هذا الأمر، لأنها حسنت أداءها على المؤشر.

نحن لا نعرف حقاً ما الذي قد يجعل النمو أكثر شمولاً والدول أكثر قدرة على المنافسة والتنمية أكثر استدامة في كل بلد ومنطقة؛ ولا ينبغي لنا أن نتظاهر بأننا نعرف ذلك. ربما يكون بوسعنا أن نساعد العالم في تحقيق التقدم من خلال قياس النتائج التي نهتم بها، وتسهيل المحاكاة والتقليد وتتبع الأداء. ولكن الخلط بين الوسائل والغايات من شأنه أن يجعلنا جميعاً نرتدي ملابس كتلك التي يرتديها جورج كلوني ثم نتساءل لماذا لا نشعر حقاً بأننا أصبحنا رائعين مثله.

* وزير سابق للتخطيط فنزويلا وكبير الاقتصاديين السابق في بنك التنمية للبلدان الأمريكية، وأستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، ومدير مركز التنمية الدولية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق