q

في مجتمع مثل المجتمع العراقي، فقَدَ أكثر من نصف رجاله في سلسلة من الحروب والاضطرابات المستمرة منذ قرن، ضمن تاريخه الحديث والمنظور، لابد أن يتم تعويض هذا النقص (الاجتماعي) الخطير عبر الشريك الآخر، ونعني به المرأة، فالرجل الذي تبتلعه الحرب في اتونها، او تصيبه بعاهة تجعله نزيلا دائميا في الدار، او تحيله الى مفقود دائمي وهو على قيد الحياة (اسير او مدفون في مقبرة جماعية مجهولة)، واخيرا عندما يجعل العنف الرجال أصفارا على الشمال لا قيمة عملية لهم في الحياة، عند ذاك أمام الشعب خيارين لا ثالث لهما.

أما الفناء بسبب غياب أهم عنصر لادامة حياة المجتمع وهو الرجل، أو أن تأخذ المرأة دور الرجل (الشهيد، أو المفقود، او العاجز المصاب بعاهة دائمية)، ونعني بذلك أن تأخذ المرأة دور الرجل، بمعنى تقوم بجميع الواجبات الحياتية الأسرية التي يقوم بها، وتتكفل بالادوار العملية والفكرية التي يؤديها حتى يجعل الحياة قابلة للاستمرارية بصورة مقبولة.

فهل حدث شيء من هذا القبيل في المجتمع العراقي، وهل قامت المرأة بمثل هذا الدور؟؟ وقبل الاجابة عن مثل هذا السؤال الجوهري، ما هي صفات المرأة القادرة على اداء مثل هذه المسؤولية الاجتماعية الاخلاقية التربوية الخطيرة، وهل يمكن أن تنجح كل النساء في القيام بمثل هذا الدور؟، بطبيعة الحال ليس كل امرأة قادرة على اداء هذا الدور، ولا يمكن أن تكون جميع النساء على استعداد لمثل هذا الدور الشاق، بل لابد أن تكون هناك مواصفات خاصة للمرأة التي تستطيع أن تحل محل الرجل، وتؤدي دوره بلا ملل او كلل او امتعاض.

لهذا السبب نجحت نساء في هذا الاختبار، فيما فشلن أخريات وسنأتي على اسباب النجاح والفشل، نحن هنا نطبّق هذا الكلام على المجتمع العراقي، وعلى دور المرأة بالتحديد، لقد أُجبرت المرأة على أن تقوم بدور الرجل حتى تحافظ على تماسك النسيج الاجتماعي، وقد نجحت في ذلك استنادا الى المعطيات التي يمكن استخلاصها بالارقام والاحداث، ولكن هناك عوامل ساعدت المرأة العراقية على النجاح في دورها هذا.

وأهم هذه العوامل هو النموذج الذي اقتدت به المرأة في العراق، ومثلما نعرف جميعا، أن السيدة (فاطمة الزهراء/ سيدة نساء العالمين ع)، ابنة النبي الكريم محمد (ص)، لها حضورها التاريخي والواقعي في الذاكرة النسوية العراقية والشعبية ايضا، فضلا عن المجتمعية على وجه العموم، وتحفظ المرأة العراقية خصال وملَكات ومواصفات الزهراء عليها السلام عن ظهر قلب، ويمكن أن نقول أن معظم النساء العراقيات، هن فاطميات من حيث الصفات والخصال والتفكير والسلوك والارادة، لهذا كان دور النموذج والاسوة والقدوة الحسنة، هو العامل الأهم الذي ساعد المرأة العراقية على النجاح في تجاوز مأزق فقدان الرجل، في المعارك والحروب والاضطرابات التي ملأت تاريخه الحديث منذ عقود، والى يومنا هذا.

مقومات نجاح المرأة الفاطمية

لماذا اختارت المرأة العراقية المثقفة النموذج الفاطمي كي تقتفي أثره، وتسير في هديه، وتمشي في مساره وخطاه، فكرا وعملا وأخلاقا واصرارا؟، وبعد هذا الاختيار ما هي العقبات التي واجهتها وهي تحث الخطى في هذا المسار؟، ان الظروف التي مرت بها المرأة العراقية ربما لا نستطيع أن نجد لها مثيلا في شعوب ودول العالم الاخرى، فالحروب ليس وحدها من أضعف نسبة الرجل بالقياس للمرأة في العراق، بل هنالك الحكام الطغاة، وهناك فترة الانقلابات العسكرية التي ادخلت البلاد في فوضى الموت والدمار وكان الرجال وقودها الدائم، ثم حلت حرب ايران والعراق، حرب السنوات الثمان الطاحنة التي أخذت ملايين من الرجال، وتركت المرأة بين ارملة، ومطلقة، أو زوجة مفقود لا تعرف هل هو على قيد الحياة أم غادرها.

لتبدأ حرب 1991 والانتفاضة الشعبانية، فقد راح مئات الآلاف من الجنود العراقيين في تلك الحرب الخاسرة، واعدم النظام السابق عشرات الآلاف من شبان الانتفاضة الشعبانية، كل هؤلاء لديهم نساء واطفال تركوهن ارامل وايتاما، بعدها جاء دور الحصار الذي أخذ ما اخذ من رجال، لنصل الى حرب نيسان 2003، وفقدان مئات الآلاف من الجنود العراقيين، ليبدأ مسلسل الارهاب والموت المجاني المستمر حتى الآن، كل هذا جعل نسبة الرجال أقل من النساء، وضاعف من مسؤوليات المرأة العراقية، فلم يكن أمامها سوى اخذ دور الرجل في التصدي لمسؤولية تثقيف العائلة والقيام بدور المعلمة المربية.

ومن حسن الحظ أن النموذج الفاطمي للمرأة العراقية يتجسد أمامها في التاريخ المشرف لفاطمة الزهراء (ع)، حضورا، وثقافة، وعصامية، وفاعلية، تتقدمها شخصية نموذجية، تستمد جل صفاتها من أبيها الرسول الأكرم (ص)، بكل ما يحمل من ملَكات انسانية عظيمة، قوامها الرحمة والرأفة والشفقة والصبر والدأب، والاصرار، وحب الانسان، واحترامه ورفع قيمته وشأنه وحمايته من كافة اشكال التجاوز والامتهان.

كل هذه الخصال العظيمة أخذتها الزهراء (ع) من الحاضنة الأم، فضلا عن زوجها الامام علي عليه السلام، وهو القمة في الذكاء والحنكة والعدل والحزم، وهو نصير الفقراء، والأب الأول لجميع الأيتام، ونصير الأرامل، هاتان المدرستان تعلمت منهما فاطمة الزهراء كيف تكون امراة مثقفة عصامية عادلة رحيمة ايجابية، متمسكة بالحق حتى لو كان على نفسها، فصارت عبر التاريخ النموذج الفاطمي الذي تمسكت به المرأة العراقية وحاولت بأقصى الاصرار أن تجعل من هذا النموذج الفاطمي نصيرا ومعبرا ومسندا لها في ظروف الحرب والفوضى والارهاب والاضطراب التي لا تزال قائمة حتى اللحظة.

المرأة الفاطمية والمنظمات الثقافية

يبقى لدينا آليات وخطوات العمل التي من خلال أمكن للمرأة الفاطمية المثقفة أن تؤدي دورها كما ينبغي، من خلال الاسترشاد بالنموذج والقدوة، ولعل السمة الأهم والأعظم التي تتحلى بها سيدة نساء العالمين الزهراء عليها السلام، هي عنصر الارادة الحديدية والاصرار على تحقيق الهدف المنشود، فقد كانت الزهراء ذات شخصية قوية لا تهاب الظالمين، وكانت مؤمنة تستمد قوتها ورجاحة رأيها من ايمانها، وكانت تأخذ قوتها المعنوية من مكانتها العظيمة.

فهي سليلة الدوحة النبوية، وإن كانت بشرا مثلنا، فقد تحلت بقوة المنطق، ووضوح الكلام ورشاقة اللغة ووضوح الهدف، والاصرار على توعية المرأة وتثقيفها وتعميق ايمانها ومبدئيتها، فصارت نموذجا لها واسوة حسنة وقدوة للمرأة التي تبحث عن سبيل لتجاوز مصاعبها في الحياة، لذا هنالك خطوات ينبغي على المرأة الفاطمية التشبث بها وتطبيقها في حياتها من أجل تحقيق الاهداف المخطط لها.

وأول وأهم هذه الخطوات أن تستثمر المرأة الفاطمية المنظمات والمؤسسات الثقافية والخيرية من اجل تقديم الوعي والثقافة للنساء الأخريات، فالمرأة التي تبقى حبيسة البيت، وتبقى محاصرة بحالة العجز والجمود لا يمكنها أن تكون مثالا للمرأة الفاطمية، لأن الاخيرة ينبغي أن تكون في قمة النشاط والحيوية، من خلال تعدد نشاطاتها وتفاعلها وتقديمها للخدمات الثقافية للنساء الاخريات عبر المشاركة في التجمعات والدورات في المؤسسات الثقافية والخيرية.

ولا يصح أن تبقى المرأة أسيرة التردد، أو محاصرة بالدور النمطي لها، وهو دور الاشغال التي يحتاجها البيت من تنظيف وغسيل وتربية ابناء وهي امور على اهميتها، ولكن طاقة المرأة الفاطمية اكبر من هذا الدور بكثير، لذلك عليها أن تخرج وتبحث وتساهم في الدورات والانشطة التي تقدمها المؤسسات الخيرية والثقافية لكي تساعد في خلق شخصية نسوية فاطمية نموذجية تبني مجتمعا متطورا متقدما حتى في حالة قلة نسبة الرجال فيه، او انشغال الرجال في الدفاع على الوطن والمقدسات كما يحدث اليوم في العراق، وحربه المقدسة التي يخوضها ضد عصابات داعش الاجرامية حفاظا على الارض والعرض والمقدسات.

ان المرأة الفاطمية المثقفة، هي تلك التي تتخذ من الزهراء عليها السلام قدوة لها، وتنجح في مسعاها المهم وهو سد فراغ غياب الرجل (الزوج/ الأب) لأي سبب كان كما هو الحال اليوم في بلدنا العراق.

اضف تعليق