q

لا يمكن أن يبنى الوطن برجال أغبياء، مثلما يكون من المستحيل بناء مجتمع متقدم بعقول متأخرة ضيقة الآفاق، لا جديد في مثل هذه الأقوال، فهي من بديهيات القول، وهذا يعني أن الدولة والمجتمع، لا سبيل الى رفع مستواها لكي ترتفع الى مصاف الدول المتطورة، تحتاج الى رجال أذكياء، ولكن ثمة مشكلة تلوح في الأفق، إنها مشكلة الغباء الذي قد يصاب به الأذكياء أحيانا، ما ينعكس سلبا على الدولة والمجتمع.

يرى بعض علماء الاجتماع في دراساتهم وتجاربهم أن هناك احتمال وارد بأن يتعمد الشخص الذكي اسلوب الغباء، وبعضهم من يستلل الغباء الى تفكيره وسلوكه من دون أن يتنبّه الى ذلك، والسؤال المهم في هذا المجال، هل يمكن أن يكون الانسان الذكي غبيا؟!، ولماذا يعتمد الغباء اذا كان ذكيا؟، قد ينطوي هذا التساؤل على مفارقة غريبة، إذ كيف يمكن أن يكون الانسان ذكيا وغبيا في الوقت نفسه، فهل هو يتعمّد الغباء مثلا؟، ثم لماذا يظهر الغباء في اقواله وسلوكه، اذا كان هذا الامر يضر بشخصيته ومصالحه واعماله؟، ولماذا لا يستخدم ذكاءه فقط في التعامل مع الآخرين، بدلا من الغباء حتى يبقى ناجحا على الدوام؟، وهل الغباء كسلوك مفروض عليه؟ وثمة أسئلة اخرى تُثار حول طبيعة السلوك الذي تعتمده مثل هذه الشخصيات التي قد تثير العجب او الغرابة في بعض أفكارها وتصرفاتها.

هذه المشكلة يمكن ملاحظتها في النسيج المجتمعي، بمعنى قد نلحظ أشخاصا اذكياء ولكنهم في نفس الوقت يسيئون الى أنفسهم من خلال بعض المواقف والخطوات العملية او الفكرية التي يقدمون عليها، من دون تأني او تريث، على الرغم من أن مثل هذه الخطوات تنم عن غباء في الفكر والسلوك يعود عليهم بالضرر.

ظاهرة ينبغي معالجتها

وعندما تزداد مثل هذه الحالة بين أوساط عديدة من النسيج المجتمعي، فإن الأمر يثير العديد من التساؤلات تطرحها هذه الظاهرة، ونقول ظاهرة لأننا نصادف كثيرين يمتلكون الذكاء، لكنهم يعتمدون نقيضه في ادارة حياتهم، والمشكلة ان حياتهم وسلوكهم وافكارهم لا تعود بالضرر عليهم فقط، بل الاذى يتجاوزهم الى الاخرين، ولا يتوقف الاذى عندهم ولا ينعكس عليهم فقط، بل يتعداهم الى كل من يتعامل معهم بصورة مباشرة، فضلا عن المجتمع الذي يتضرر من هذه الظاهرة بصورة غير مباشرة، لهذا لابد من ملاحظة مثل هذا السلوك ودراسته بدقة..

إن التصرف بغباء من لدن الأذكياء يشكل تراجعا للمجتمع، ولكن ينبغي رصد المسببات التي تدفع هؤلاء في هذا الاتجاه، حيث يرى العلماء المختصون بالسلوك، والمعنيون بعلم الاجتماع، وعلم النفس، أن الانسان الذكي قد يتغابى احيانا، لاسباب معينة وظروف ضاغطة او طارئة، من اجل تمرير هدف معين، او التخلص من عبء ما او مشكلة معينة، وقد يكون هذا السلوك مبررا في بعض الحالات، كأن يحاول انسان ما أن يتخلص من موقف أو مشكلة ما، ولكن ينبغي أن يكون الانسان في جميع الحالات فاهما لما يدور حوله واين تكمن مصلحته، وقد يطون هناك مبرر لتمرير بعض المواقف من خلال التغاضي او غض الطرف كما يُقال، من اجل صنع نوع من التوازن وعدم التصادم وممارسة مبدأ الاحتواء، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بحدود مدروسة لا تتسبب في اذى لأحد.

اذاً من الممكن للانسان القائد او المسؤول او صاحب المركز الاجتماعي او رجل الدين وما شابه، أن يغض الطرف أحيانا، لتفادي تطبيق اسلوب الصراع او التصادم، ولكن ماذا نقول للذكي الغبي على الدوام؟، ولكي نقرّب الصورة اكثر سنتحدث مباشرة عن بعض السياسين كمثال هنا، فعندما يصل هذا السياسي او ذاك الى منصب رفيع، ويتصدى لمسؤولية مهمة وخطيرة، تتعلق بمصائر الناس وحاضرهم ومستقبلهم، فإنه يكون قد حقق هذا الهدف بجهده ومثابرته وذكائه حتما، هذا اذا استثنينا الاساليب المخادعة في الوصول الى المناصب، كالتملق والتزوير وتبادل الصفقات، والمصالح على حساب الاخرين، كما يفعل بعض السياسيين عندما يتسلقون الى مناصب لا يستحقونها، وهو اسلوب موجود وبعضهم يقول شائع في ميادين العمل السياسي، بيد أن الامر لا يشكل قاعدة، بل هناك سمات وثوابت تمثل شخصية السياسي وهي سمات محترمة.

المجتمع حاضنة القيم الجيدة ونقيضها

اذاً نحن بصدد فهم حالة التعامل بغباء في بعض الحالات، وقد يقود هذا الفعل بعض الناس الى مآربهم الدنيئة، ولكن هناك من يصل الى مناصب الدوله بجهده وذكائه، نحن نتحدث هنا عن سياسي ينجح في كسب ثقة الناس، ثم ما يلبث ان ينسف هذه الثقة ويتصرف بغباء!!، نعم هناك سياسيون اذكياء يتصرفون بغباء عندما ينسون الناس ومصائرهم وحقوقهم، ويلهثون نحو مصالحهم حصرا، انهم بهذه السلوكيات القاصرة يعبرون عن غباء واضح، غير مبرر على الاطلاق، ولا ينسجم مع ذكائهم عندما كسبوا ثقة الناس قبل وصولهم الى المسؤولية، لذا ينبغي أن لا ينسى السياسي انه ازاء مسؤولية الوفاء بما وعد، وأن التملص من الوعود ليست ذكاء انما هو غباء يؤدي الى مستقبل سياسي مجهول.

قد نجد مثل هذا السلوك في ساحتنا السياسية، او مجالات العمل الاخرى، وهي في جميع الاحوال لا تنم عن سلوك ذكي، هذا المثال لا ينحصر بالسياسي بطبيعة الحال، بل هناك نماذج كثيرة يصح عليها ما يصح على السياسي، فقد نجد نماذج اخرى من المجتمع تنطبق عليها هذه الظاهرة، وسوف يكون الضحية او المتضرر ليس من يتصرف بغباء وهو ذكي، انما سوف يتحول هذا السلوك الى منظومة، وربما قيمة متخلفة تنتشر بين شرائح المجتمع، لينتج عن ذلك اخطاء كبيرة في السلوك المجتمعي، والسبب كما هو واضح، تصرف بعض الاذكياء بغباء! في الوقت الذي كان ينبغي عليهم أن يتصرفوا بطرق أفضل كونهم مسؤولون أكثر من غيرهم بسبب مؤهلاتهم التي قد لا تتوافر لغيرهم من المجتمع.

اذاً لابد أن يتحمل الناس الاذكياء في المجتمع، مسؤولية قيادته وتوجيهه نحو الأفضل، وهذا لن يتحقق عبر الغباء، إنما ينبغي التمسك بالذكاء المبدئي، لاسيما أن الغباء المصلحي يمثل ظاهرة مجتمعية، بمعنى موجودة اصلا في المجتمع الذي يشكل الحاضنة لمعظم القيم الجيدة والمنحرفة، فالتطرف والتعصب قد يصدر من أناس اذكياء احيانا، بل قد يسهم بعضهم في اثارة الفتن وبعض قيم التخلف مع سبق الاصرار، لذلك نجد بين الحركات المتطرفة حملة شهادات عالية وقيّمة، وقد نجد بينهم أكاديميين ومدرسين وما شابه، وهذا دليل على أن الاذكياء قد يتورطوا في صراعات وعبث ومشكلات لا حصر لها، وهذا دليل غباء بطبيعة الحال، حتى لو كان القائم به محسوبا على رجاحة العقلاء.

في الخلاصة يمكن أن يتحول الذكاء الى غباء، عندما لا يرصد الانسان انزلاقه في الفكر المتشدد والسلوك الخاطئ، فالخطوات الأولى ينبغي أن تكون دقيقة ومدروسة، حتى يكون ما يأتي بعدها صحيحا، وحتى تكون نتائجها مضمونة وجيدة وبعيدة عن الغباء فكرا وسلوكا.

اضف تعليق