q

سايمون هندرسون

 

تقوم الرؤية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية، بكل صراحة، على كل ما يصب في مصلحة بيت آل سعود الحاكم. ولطالما شكّل تمييز هذه الرؤية، وخاصة في أوقات المحن وربما التغيير، تحدياً، نظراً للغموض الذي يشوب العائلة المالكة ولتفضيلها العلني [للملاحظات] المبتذلة. والأسوأ من ذلك، أن المبدأين التوجيهيين لفهم سياسات العائلة المالكة السعودية متناقضان-على الأقل جزئياً. ووفقاً للمبدأ الأكثر اقتباساً، على الرغم من الاختلافات ضمن العائلة المالكة، لن يدع الأمراء خروج مشاحناتهم الداخلية إلى العلن، وسيحاولون دائماً الظهور في جبهة واحدة موحدة. أما المبدأ الأقل تداولاً فهو أن سياسات العائلة المالكة السعودية قد تنم عن فكر ضيق الأفق إلى حد كبير، بحيث أن الخلافات البسيطة قد تؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها.

ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن فكرة امتلاك الرياض لرؤية إقليمية من الجدير أن يُطلق عليها "استراتيجية"، وتُعتبر سخية في أفضل الأوقات. ولم تكن الأشهر الإثني عشر الأخيرة أفضل الأوقات.

قبل عام، في كانون الثاني/يناير 2015، توفي الملك عبد الله عن عمر يناهز 92 عاماً، بعد عدة أسابيع من الصراع مع مرض عضال لم يُكشف عنه ولكنه ربما نتج عن مضاعفات التهاب رئوي. وتميزت الأشهر الأخيرة من حياته، بتركيز الملك بصورة محدودة على شؤون الدولة، إذ كانت تنتابه نوبات غضب عرضية نجمت عن مزاجه العكر الذي عُرف به. وكان من الممكن التستر على هذه العيوب لو كان الشرق الأوسط يشهد هدوءاً نسبياً، إلا أن حدثين غيّرا مجرى الأمور. فقد انخفض سعر النفط، وهو مفتاح ازدهار المملكة، من 130 دولار في الصيف الماضي إلى ما دون 50 دولار للبرميل. كما استولى المتمردون الحوثيون في اليمن المجاورة على الجزء الأكبر من العاصمة صنعاء، ورفضوا مسودة دستور جديدة اقترحتها حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي التي ازدادت هشاشة.

واليوم، بعد مضي اثني عشراً، انخفض سعر النفط إلى ما دون 30 دولار للبرميل الواحد، فيما تواجه الحرب اليمنية، التي اندلعت وسط حماسة شعبية لافتة في آذار/مارس 2015، أفقاً مسدوداً. وفي غضون ذلك، تظهر ملامح التقدم في السن على العاهل الجديد الملك سلمان، إذ يمشي متكئاً على عصى، ووفقاً لمجلة "نيويوركر"، قرأ نقاط المحادثات التي تناولها، عند اجتماعه مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، مستعيناً بلوح "آي باد". وتجدر الإشارة إلى أن خَلف الملك المفترض هو ولي العهد الأمير محمد بن نايف، الذي يفوقه حيوية بعض الشيء ويقال إنه ما زال يحاول تخطي صدمة تعرضه لمحاولة اغتيال على يد انتحاري عام 2009 كادت أن تودي بحياته. إلا أن السلطة الفعلية متمركزة بيد أحد أبناء الملك الأصغر سناً، هو الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع وولي ولي العهد الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين عاماً ويُعزى تسلقه السريع لمنصبه الحالي بالكامل لكونه المفضل لدى والده.

ومن غير المفاجئ أن يكون لهذه التغيرات تداعيات على صعيد السياسات. فالملك عبد الله عُرف بكراهيته لإيران (كما تُبين العبارة اللافتة "قطع رأس الأفعى" في برقية لوزراة الخارجية الأمريكية سربها موقع "ويكيليكس")، واحتقاره لحركة «حماس» في الساحة الفلسطينية وضعفه أمام استفزازات أمير قطر الشاب الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. أما الملك سلمان، أو بالأحرى نجله الأمير محمد بن سلمان، فقد انتهج سياسة مختلفة. فبالرغم من أنه بقي يكن الازدراء لإيران، إلا أنه بذل جهوداً حثيثة لإبقاء العدد الأكبر من القادة العرب تحت عباءته كما يقال بالعامة. من هنا، تقرّب من «حماس» في وقت مبكر، على الرغم من أنه قد وطّد علاقته بصورة أكثر مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تُعتبر آراؤه الشخصية تجاه جماعة «الإخوان المسلمين» أقل تساهلاً بكثير. وأبدى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد ما يكفي من حسن اللياقة لعدم التصادم علناً مع الملك سلمان. أما المغردان الوحيدان خارج السرب فهما الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يستحيل على ما يبدو التوصل معه إلى أي تسوية، والسلطان قابوس من عمان، الذي يبدو مرتاحاً في موقعه الجغرافي على طرف شبه الجزيرة العربية ومحظوظاً على ما يبدو كونه قد نجا من سرطان القولون، الذي اعتقد الجميع أنه في مراحله الأخيرة.

ويقوم إسلوب السياسة السعودية على إبقاء الملك سلمان تحت الأضواء بصورة دائمة تقريباً. فهناك عدد قليل من الشخصيات الأجنبية، وخصوصاً العربية، التي لا يبدو أن الملك مستعداً للقائها وسط ضجة وحفاوة عارمة بشكل يومي تقريباً. ومن الطبيعي مثلاً أن يقابل قائد "القيادة المركزية الأمريكية الوسطى" (CENTCOM) والرئيس التركي أردوغان ورئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عباس والرئيس التونسي السبسي، ولكن أليس مستغرباً أن يصل به الحد إلى استقبال رئيسي طاجيكستان وأوغندا؟ مع ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية هو إسلوب عمل الأمير محمد بن سلمان، الذي يلعب دور المبعوث الخاص لوالده في المناسبات (مثل الاجتماع مع الرئيس بوتين) التي تستوجب المزيد من الثقل الدبلوماسي من ذلك الذي يمثله وزير الخارجية والسفير السابق في واشنطن عادل الجبير المعروف بمرونته. إذاً إلى أي نوع من الرجال ينتمي الأمير محمد بن سلمان؟

وفقاً لأحد متابعي العائلة المالكة السعودية، يتميز الأمير محمد بن سلمان "ببساطته". ويُعد ذلك بمثابة إطراء، يعكس واقع عدم تلقِ تعليمه في الغرب [بل في وطنه]، وتفضيله ارتداء الصنادل على أحذية "غوتشي" مع عباءاته العربية. إلا أن الأمير بن سلمان يفتقر على ما يبدو للّياقة الاجتماعية أيضاً. وبحسب ما يشاع عن العائلة المالكة، طرد الملك عبد الله ذات مرة الأمير محمد بن سلمان من مجلسه، وهو المناسبة الملكية شبه الرسمية التي يُفترض أن تكون مفتوحة للجميع. وفي مناسبة أخرى، طلب الأمير بن سلمان خدمة من وزير الداخلية الراحل الأمير نايف الذي شغل هذا المنصب لمدة طويلة، فجاء رد الأخير بأن على الأمير محمد بن سلمان أن يرحل ويُحسن أسلوبه في إدارة الأعمال. وتماشياً مع هذا الأسلوب، وفقاً لسفراء في الرياض لا يستطيعون تأكيد الرواية إلا أنهم يفترضون أنها صحيحة، ترك الأمير بن سلمان في إحدى المرات رصاصة حية على مكتب أحد خصومه على خلفية تنافس حول صفقة ما.

وبالتالي، تحاول المملكة العربية السعودية حالياً توحيد العالم العربي، بينما تواجه إيران في اليمن وسوريا وأماكن أخرى، كما تحاول التكيف مع سعر النفط الذي يبقى منخفضاً جداً. إن الشخصية الأساسية، أي ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يبدو وكأنه يؤدي دوراً في مسلسل "آل سوبرانو" (The Sopranos)، عندما لا يعتنق رؤى تكنوقراطية على غرار توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" أو أسرة تحرير مجلة "ذي إيكونومست". وإنصافاً للمملكة العربية السعودية، قد تستحق عدة دول أخرى في الشرق الأوسط (ودول أخرى حول العالم) أن يتم تصنيفها على نحو مماثل. وقد يتحرر الشرق الأوسط الحالي (أو لا) من احتمال [تطوير] إيران لأسلحة نووية، ولكنه ما زال يعمل بشكل مقلق في ظل خصومة لدودة تهدد المبدأين الساميين المتمثلين بالاستقرار والازدهار الإقليميين. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن التحدي المتعلق بالسياسات يكمن بتطوير شراكة يمكنها أن تنجح في مثل هذه الظروف.

* سايمون هندرسون هو زميل بيكر ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق