q

نقرأ في البريد الوارد الى احد اجهزة الموبايل: مشتاقين – ترجعون بالسلامة – بانتظاركم – مساء الخير – الف مبروك – ياليتني الان معك وكل لحظة اشوفك.

انها نوع من رسائل الزمن الراهن اخذت تنتشر بيننا بانتشار اجهزة الموبايل.. رسائل قصيرة تعرف باسم (sms) يتبادلها الجميع في ما بينهم، ويغلب عليها الاختصار، وتكون في معظم الاحيان مشوبة بالكثير من الاخطاء اللغوية والنحوية، اضافة الى طغيان العامية على معظمها..

رسائل تختصر مشاعرنا وعواطفنا وتكثفها في كلمات قليلة، مختصرة، تنتقل عبر ضغطة واحدة على زر الاتصال، ولا تستغرق سوى ثواني قليلة للوصول الى المرسل اليه.

هذه الرسائل القصيرة جعلتنا ننسى – مثل اشياء كثيرة اخرى نسيناها – رسائلنا المطولات التي كنا نكتبها في سنوات مراهقتنا وشبابنا لمن نحب وللاهل والاصدقاء.. واقترنت تلك الرسائل بموزعها على من نحب، وهو ساعي البريد.

قليل منا من يتذكر تلك الدراجة الهوائية التي يقودها رجل يتميز بزيه وبحقيبته التي يحملها على ظهره.. ساعي البريد الذي كان يدور في الشوارع والازقة موزعا الفرح بتلك المظاريف البيضاء والسمراء، ومبددا لوعات الانتظار في عيون الكثير منا.. ساعي البريد حامل البهجة الى قلوبنا، زارعا فيها خفقا جديدا من لذة وانتشاء.

يذكّرنا ساعي البريد ، مثله مثل الكثير من المظاهر التي انقرضت او تكاد، يذكرنا بذلك الزمن الجميل، وبتلك الحميمية والدفء الصادق في علاقاتنا، وبذلك التواصل الانساني الرائع الذي اختفى او اوشك من حياتنا الحاضرة.

الساعي وبريده يعود ذكره الى حوالي 2000 عام قبل الميلاد، في وصية كاتب لولده يحدثه فيها عن اهمية صناعة الكتابة والمستقبل الزاهر للعمل في وظائف الحكومة، ومن بين ماقاله: اما ساعي البريد فانه يحمل اثقالا فادحة، ويكتب وصيته قبل ان ينطلق في مهمته توقعا لما يصيبه من الوحوش والاسيويين.. وكاتب الوصية هذا مصري.

دخل ساعي البريد الى الادب والسينما من ابوابها الواسعة، فقد اصدر الاديب الامريكي جيمس كالاهان روايته الشهيرة (ساعي البريد يطرق الباب مرتين) التي نشرت في العام 1934 واحدثت ضجة كبرى، وتحولت الرواية الى فيلم سينمائي شهير في عام 1946 اخرجه تامي جارنيت وقامت ببطولته النجمة لانا تيرنر امام جون جارفيلد وسيسيل كالاوي.

ثم اعادت السينما الامريكية تقديم نفس الرواية في فيلم اخر بنفس العنوان بعد 35 سنة اخرجه بوب رافلسون وقامت ببطولته جيسيكا لانج وجاك نيكلسون، وهو من الافلام التي يتذكرها عشاق السينما جيدا.. وايضا نذكر (ساعي البريد) الذي قام ببطولته كيفين كوستنر عام 1977، وفيلم (ساعي البريد) اول افلام المخرج سبايك لي عقب تخرجه، والفلم الايراني (بونكو ساعي بريد القبيلة).

في السينما العربية نذكر افلام (البوسطجي) للمخرج كاما التلمساني الذي اخرجه عام 1948 و(البوسطجي) للمخرج المغربي حكم النوري عام 1980 ، و(تحديات ساعي البريد) الذي اخرجه العراقي محمد توفيق، والكثير غيرها من الافلام كان اخرها فيلم (ساعي البريد) الماخوذ عن رواية احتراق الصبر للكاتب التشيكي انطونيو سكارمينا.

ساعي البريد انسحب من حياتنا بعد ان ضاعت دراجته في زحمة السيارات الحديثة التي دخلت العراق بعد العام 2003، وضاعت حقيبته مع دخول اشياء كثيرة غيرها مثل الايميل والاس ام اس والتي اوجدت معاني جديدة اخرى لمبدأ التواصل الانساني ومبدأ الحميمية بين البشر.

فرسائلنا التي كنا نكتبها باصابع مرتجفة، وعلى اوراق ملونة وبعضها معطر، اصبحت الان قصيرة وسريعة، ومبتسرة، واختفت اثار اصابعنا منها فافتقدت الى خاصية التلامس البشري مع ماتركه الاخرون عليها من انفاسهم وربما دموعهم.

ساعي البريد كفّت يده عن طرق ابوابنا وعن جلب الفرحة لنا، وعن تبديد هواجس انتظارنا، وبقيت صورته وما حمله الينا يوما ما في زوايا الذاكرة التي تشيخ باستمرار وتشيخ معها اعمارنا.

اضف تعليق