q

مارس العرب الكثير من الأنظمة والتقاليد، التي تَحفظ لمجتمعهم العزّة والسؤدد، ذلك عبر تأريخهم الممتد ولأكثر من ثلاثة آلاف عام. وعبر هذا الزمن المُتطاول، نرى الكثير من المعالم التي أرسى العرب لمعالمها في الضمير البشري والتراث الإنساني، وكانت لها ولايزال بالغ الأثر وعميق التأثير في بناء المنظومة الفكرية للمجتمع العربي، على أقل تقدير، ان لم يتعدّاه لأقوام أخرى.

تُشير الكثير من المصادر والأبحاث الحديثة والمعاصرة، إلى أن حجم التراث المادي والفكري الذي أنتجه المُثقف العربي (أي كل مَن كتب وألّف وقرأ الحرف العربي) عبر العصور، قد تجاوز بحجمه الثلاثة ملايين كتاب بخطوط، وحسب ما تم كشفه وإحصائه حتى الآن. ويحتفظ بالقسم الكبير منه العرب في بلادهم حتى اليوم وقسم آخر موزّع على مكتبات ومتاحف العالم المُختلفة. وهو يُمثّل صلة مهمة من الصلات الحضارية على سطح المعمورة، ولمُختلف المجموعات البشريّة التي تعاقبت بالعيش في مُختلف أرجائها.

وهناك جملة من تلك المصادر التي أتت على ذكر العرب وتأريخ حضارتهم ومنجزاتهم الثابت في مُختلف الميادين وفروع العلوم والمعارف، منها كتاب: (المُفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام ــ جواد علي) و(تأريخ حضارة وادي الرافدين ــ أحمد سوسة) و(حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور ــ أحمد سوسة) و(التأريخ العربي القديم ــ ديتلف نيلسون) و(تأريخ الجنس العربي في مُختلف الأطوار والأدوار والأقطار ــ محمد عزة دروزة) و(الساميون ولغاتهم ــ حسن ظاظا) و(تأريخ العرب المُطوّل ــ فليب حتي) و(العرب قبل الإسلام ــ جرجي زيدان) و(العرب في سوريا ــ رينيه ديسو)، وغيرها الكثير الكثير، وما أتينا على ذكره لا يعدو سوى نماذج ليس إلّا، في سبيل تقريب الأذهان وتعزيز النظرة لدى المُطالع الكريم حول لمحة سريعة من تلك الأبحاث والكُتُب التي أخرجها أصحابها في سبيل تثبيت التأريخ لمنطقة من مناطق العالم ولمجموعة بشريّة كان لها الفضل في التأسيس لجملة مهمّة من أوائل الأمور. ومَن يُريد الاستزادة حول الموضوع والتوسّع فيه، فما عليه سوى زيارة المكتبة العربية، ليرى حجم ما تم تأليفه في هذا الباب من الكتب والدراسات والأبحاث بل وحتى جملة لا تُحصى من المقالات، سواء من العرب أنفسهم أم من المُستشرقين وعبر مُختلف المراحل.

ولايزال القلم العربي زاخراً بالإنتاج البحثي المتواصل، حول مفاصل لها من الأهمية ما لها، وعبر المسيرة الحضارية لأمة العرب. واليوم خرج علينا الأستاذ الشيخ (عزيز جفات الطرفي) بكتاب جديد ومهم في بابه، يتناول به شعبة من شُعب النظام الاجتماعي عند العرب، ألّا وهو (التّحكيم) لدى العرب في مُختلف العصور والمراحل الزمنيّة.

فالتّحكيم وحسب ما أشار له المؤلف الكريم، هو نوع من أنواع القضاء بين الناس، بهدف فض النزاعات وإطفاء الخُصومات بين الأفراد أو الجماعات المُتَصارعة فيما بينها. وهذا الأمر وما شابه، من الأمور التي اعتاد العرب ومشايخهم على العمل بها والتأسيس لها، بل وتطويرها عبر الزمن لتشمل أيضا معرفة الأنساب والقبائل والبطون، وانحداراتها السلاليّة وتواريخ أهم الأحداث والوقائع التي جرت بينها وبين غيرها من القبائل. حيث اليوم يُصطلح عليهم (بالنسّابة) أو (العارفة).

يتألف الكتاب من سبعة فصول، ضمن 191 صفحة، مع المقدمات والخاتمة والفهارس. وصدر الكتاب برعاية قسم الدراسات والبحوث في جمعية الهداية الثقافية. وهو دعم يُشكرون عليه. تصدّر الكتاب بكلمة للناشر، وهي دار التوحيد للنشر والتوزيع. ومن ثم أعقبتها كلمة لرئيس لجمعية الهداية الثقافية الشيخ محمود عبد الرضا الصافي. وبعد ذلك قدّم المؤلف لكتابه بعرض سريع ونافع، تطرّق من خلاله للجذور التاريخية للتّحكيم بين القبائل، وكذلك بيّن بأن البعض من المُحكّمين كان لهم تخصصات في قضايا مُعيّنة يعملون من خلالها على فض النزاعات الخاصة بها فقط.

وأشتمل الكتاب على سبعة فصول كما ذكرت، فتطرّق المؤلف في الفصل الأول إلى التعريف بالعرب وأقسامها ونشأة قبائلها، كون العنوان يبدأ بعبارة (التّحكيم عند العرب)، وقد أشتمل هذا الفصل على ثلاثة محاور هي: مَن هم العرب، والعرب قبل الإسلام، وأقسام العرب ضمن مفهوم المؤرخين والنسّابة. أمّا الفصل الثاني فقد استعرض من خلاله الحُكُم والقضاء بالمفهوم الشرعي، وأشتمل على أربعة محاور هي: الحُكُم والقضاء في القرآن الكريم، وأحاديث في القضاء، ومؤهلات القاضي الشرعي، ورأي الشرع في أحكام العوارف. أمّا الفصل الثالث فقد تناول ضمنه التّحكيم قبل الإسلام، وضَمّنهُ أربعة أقسام هي: أشهر حُكام وعوارف العرب قبل الإسلام، ومنهم الأفعى الجرهمي، والتحكيم بين قريش، وتحكيم نفيل بن عبد العُزى، وأبو طالب بن عبد المُطّلب من المُحكّمين. وأمّا الفصل الرابع فقد اختص بالتعريف للعوارف والمحكّمون في الجزيرة العربية، وأشتمل على أربعة محاور رئيسية هي: نبذة عامّة ومُختصرة عن الجزيرة العربية، ثم تعريف مُبسّط بأقسام الجزيرة العربية الخمس جغرافياً، والمنهى (محكمة التمييز عند البدو)، ومن ثم تطرّق المؤلف للحديث عن مشاهير العوارف والمحكمين في جزيرة العرب. وفي الفصل الخامس من الكتاب، كان الحديث عن العوارف والمحكمين في بلاد الشام، وتوزع على أربعة أقسام هي: نبذة مُختصرة عن بلاد الشام، والعوارف والمُحكّمين في سوريا، والعوارف المُحكّمين في الأردن، والعوارف المُحكّمين في فلسطين. وكان الفصل السادس قد أفرده الباحث الشيخ عزيز الطرفي، للحديث عن العوارف والمُحكّمين في العراق، وقد توزّع على ثلاثة أقسام هي: نبذة مُختصرة عن تأريخ العشائر العراقية، وأمّا القسم الثاني فكان الحديث فيه عن مساكن قبائل العرب وتوطنهم في العراق، وجاء القسم الثالث ليستعرض فيه أشهر العوارف والمُحكّمين في العراق مع ذكر قبائلهم. وأخيرا كان الفصل السابع قد أفرده الباحث الكريم، للحديث عن العوارف والمُحكّمين في منطقة الأحواز (عربستان)، ذلك لسبب وجيه، هو أنها تُعد منطقة عربية بامتياز، لنتشار القبائل العربية ضمنها بشكل واسع النطاق، ان لم نقول بأنّها مُغلقة على العرب تماماً. وقد قسّم الباحث الكلام في هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام أيضا وهي: نبذة مُختصرة عن تأريخ منطقة الأحواز، وفي القسم الثاني استعرض الباحث المُجد موضوعة تأريخ التوطّن وسكن العرب في إقليم الأحواز العربي، وكان القسم الأخير قد تحدّث ضمنه عن بعض العوارف والمُحكّمين في هذه المنطقة العربية. وعَرَضَ الباحث في ختام كتابه، جملة المصادر التي اعتمدها واستند عليها في اتمام هذا الجهد الرائع المبذول في سبيل تأصيل حيّز مهم وفاعل من تأريخ الأمة وأنظمتها.

ومن الجدير بالذكر ان أستعرض سيرة الرجل، ولو بشكلٍ مُختصر، إيمانا وتقديرا للكلمة ورصانتها التي تأكدت من خلال كتابه هذا وباقي مؤلفاته العديدة. فقد ولد الشيخ عزيز جفات كنجي سلطان ثعيب الطرفي، في مدينة كربلاء ــ قضاء الهندية عام 1973م، وهو حائز على درجة البكالوريوس من كلية الشريعة/ جامعة أهل البيت (ع)، له إجازات روائية ونسبيّة، كان قد حصل عليها من جملة عُلماء وفضلاء وهم: الشيخ فاضل المالكي، والشيخ محمد الكرباسي، والشيخ هاشم الزيدي، والشيخ عباس الدجيلي، والشيخ سلطان الصابري، والشيخ حسن الغديري، والشيخ أحمد الحائري الأسدي. وللأستاذ الطرفي مكانته الاجتماعية المرموقة، فهو رئيس عشيرة بني طرف، وعضو جمعية المؤرخين في العراق، وكذلك عضو مجلس ناحية الجدول الغربي في قضاء الهندية. للشيخ مؤلفات عديدة منها ما هو مطبوع ومنها مازال مخطوطاً ينتظر أن يخرج إلى النور، فمن المطبوع منها كتاب (مدن عراقية على ضفاف الفرات ــ ثلاثة أجزاء) و(من تراث العشائر العربية) و(التّحكيم عند العرب في جميع أدواره وأطواره) و(الدلالات التاريخية في القصيدة الطرفيّة)، بالإضافة إلى عشرات المقالات المنشورة في الصحف والمجلات العراقية. وأمّا المخطوط من مؤلفاته فيمكننا ذكر جملة منها كتاب (أبا الفضل العباس "ع" والفضلاء من ذريته) وكتاب (مدن عراقية على ضفاف الفرات/ ج4 ــ ج5) و(تأريخ قضاء الهنديّة) و(تأريخ الحلّة) و(قبيلة بني طرف في المصادر التاريخيّة والنسبيّة). وللشيخ عزيز الطرفي، مكتبة عامرة بالكتب والمؤلفات الرصينة، فهي تحوي على جملة مهمّة من المصادر الخاصة بتأريخ القبائل العربية وأنسابها وما يتعلّق بها من موضوعات.

اضف تعليق