q

التأم عدد كبير من العاملين في سلك الصحافة والإعلام في ملتقى حمل عنوان (وسائل الإعلام والتحديات المعاصرة في استشراف المستقبل) استضافه المركز الحسيني للدراسات بلندن عصر السبت 23/1/2016م، ناقش فيه الإعلاميون في جلستين التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية بعامة والمجتمع الاسلامي والعربي بخاصة وتأثير تطور وسائل الاتصال الحديثة على مسار المجتمع في الاتجاهات المختلفة ودور الإعلاميين في وأد الفتن وترسيخ القيم الإنسانية بوصف الإعلام رسالة إنسانية تستشرف صالح الارض وإعمارها وإسعاد أهلها.

وحضر الملتقى الذي أداره الإعلامي العراقي السيد علاء الخطيب إعلاميون وإعلاميات من بلدان مختلفة وعدد من علماء الدين ورجال السياسة وأساتذة جامعات إضافة إلى عدد من القنوات الفضائية، اطّلعوا في الجلسة الأولى على رؤية الباحث العراقي الأستاذ صلاح التكمجي التميمي حول (دور الإعلام في ترسيخ القيم الإنسانية)، كما اطّلعوا في الجلسة الثانية على رؤية الإعلامي العراقي الأستاذ باسم العوادي حول (دور الإعلام في إخماد الفتن)، كما تجاوب الحضور من خلال إغنائها بالمداخلات والتساؤلات والخروج برؤى سليمة لمواجهة الواقع الإعلامي الجديد الذي يسابق الزمن بصورة سريعة.

راعي دائرة المعارف الحسينية ومؤلفها المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، رأى أن العلاقة بين الملقي والمتلقي ينبغي أن تسود ساحتها الصدق والإخلاص، والعبء الأكبر يقع على الملقي الذي هو في عالم الصحافة والإعلام بمثابة رسول الى البشرية، مع الإعتراف بوجود دوائر وجهات ضاغطة تعمل على صرفه عن رسالته الخطيرة، لا سيما وإن الإعلام خرج عن دائرة تعريفه اللغوي والاصطلاحي وتداخل مع الإعلان والدعاية حتى غدت الصورة غائمة بالنسبة لحقيقة الإعلام، مع أنه ينبغي الفصل بين الإعلام والإعلان والدعاية، باعتبار أن الاعلام هو الإخبار وهو فن في حين أن الإعلان هو الإظهار فيما الدعاية هي التبليغ.

واعتبر الكرباسي وهو يتحدث الى نخبة من الإعلاميين والباحثين من العراق والبحرين وإيران والهند والجزائر وباكستان ولبنان وغيرها، أن من الخطأ الشديد ربط الإعلام بالإعلان والدعاية، وبذلك تنتفي رسالة الإعلامي، منتقداً جهات حكومية وغير حكومية تتحرك في هذا الطريق، ورأى في الدمج خدشاً كبيراً في سياسة الإعلام والإعلامي الذي ينبغي ان يكون موضوعيا ومهنيا، داعياً الى التفكيك بينها باعتبار أن الإعلام أمر مقدس وهو وسيلة الأنبياء والأولياء والمصلحين والفلاسفة على مر التاريخ.

وأشار الكرباسي الى أهمية أن يعي الإعلامي حقيقة الدور الخطير الذي يمارسه في الحياة بوصفه ملقياً ومؤثراً على قطاعات واسعة من المجتمع، ولأنَّ رسالته إنسانية تنحو نحو ترسيخ القيم، فإنَّ من الضروري حسب اعتقاده الالتفات الى أمرين:

الأول: أن يُحدّث الملقي المتلقي على قدر عقله، حيث ورد في الأثر عن رسول الله (ص): (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم).

الثاني: أن يلتفت الملقي الى الزمان والمكان والظرف وهو يخاطب الآخر، ففي الحديث الشريف: (ما كلما يُعلم يُقال، ولا كلما يُقال حان وقته، ولا كل ما حان وقته حضر أهله)، وهذان الحديثان هما في الواقع منهاج عمل للإعلامي أينما كان بغض النظر عن الإعتبارات العقائدية أو اللغوية أو القومية وغيرها. وفي نهاية المداخلة أكد الفقيه الكرباسي على أهمية عقد الندوات والملتقيات لما لها من أثر توعوي، داعياً الى التفكير بمنطق الجمع لا الفرد، وبمنطق العام لا الخاص كما قال الإمام علي(ع) لواليه على مصر، جد الكرباسي الشهيد مالك الأشتر: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الأستاذ علاء الخطيب الذي أدار الجلستين باقتدار على مدى ساعتين ونصف، أكد في مستهل الجلسة الأولى أنَّ اجتماع صناع الرأي ونخب الإعلام في المركز الحسيني للدراسات، الذي تصدر عنه مجلدات دائرة المعارف الحسينة، يهدف الى تسليط الضوء على الإعلام الذي يشكل محوراً مهما وهو من الخطورة بمكان له أن يشعل الحروب أو يخمدها، فهو سلاح ذو حدين، وهو ماكنة لصناعة الرأي العام، ونافذة لإخبار الناس بالواقع وتزويدهم بالمعلومات والحقائق صراحة أو تلميحا، مضيفا أن اللسان هو الآلة التي تكشف عن النوايا وهو الأداة الأهم في صنع الإعلام، مؤكداً أن مثل هذه الملتقيات ضرورية جداً لأنها تسلط الضوء على ما ينفع المجتمع وبما يساعد على تجسيد القيم الإنسانية، داعياً الى تحكيم المهنية والموضوعية في عرض الرؤى والأفكار عبر الإعلام، بوصفه رسالة إنسانية ومهمة خطيرة، لكنه في الوقت نفسه أكد أن الحيادية غائبة من وسائل الإعلام وهذا ما يدعو الإعلامي الحر لأن يكون قوياً في عرضه بما يؤمن به.

الباحث والإعلامي العراقي صلاح مهدي التكمجي التميمي، تناول في الجلسة الأولى دور الإعلام في ترسيخ القيم الإنسانية بشيء من التفصيل مستعرضاً سلسلة من الأرقام والاحصاءات التي تعكس تأثير الإعلام على مسار تفكير المجتمعات وبخاصة في الفئات العمرية الفتية والشابة، مركزاً في حديثه على الإعلام المتلفز وشبكات التواصل الإجتماعي، حيث يتعامل الإنسان معها في اليوم نحو 8 ساعات أي ثلث يومه ونصف ساعات يقظته، وهو ما نلحظه في كل زاوية من زوايا الحياة كأن يكون راجلا أو راكبا في حافلة أو قطار أو داخل سوق ومقهى، حيث استطاعت الأجهزة الحديثة أن تلقي بظلها الثقيل على المتلقي، فما عاد ينتظر ما يملي عليه الملقي وإنما أصبح إعلاماً تفاعليا يساهم المتلقي في خلقه ربما بشكل كبير.

وحول الإعلام المتلفز، نقل التكمجي التميمي أرقاماً مذهلة عن عدد القنوات الناطقة بالعربية التي بلغت نحو 1294 قناة مختلفة المشارب، إذ استأثرت بعض القنوات الخبرية بمشاهدين أكثر لاستقطابات مذهبية، وأما بالنسبة لوسائل الاتصال الاجتماعي من فيسبوك ويوتيوب وتوتير وانستغرام وفيستايم وغيرها، فإن الدراسات الحديثة تظهر استخدام الإناث لها أكثر من الذكور، كما أن المجموعات المغالية المتطرفة تستخدم هذه الوسائل لغسل أدمغة الشباب، وهناك عشرات الآلاف من التغريدات اليومية على التوتير تعمل على تجنيد الإنتحاريين.

وانتهى الباحث العراقي التكمجي التميمي الى مجموعة حقائق، أهمها:

أولا: حصول تفكك أسري، نتيجة انغماس أفراد الأسرة الواحدة في التعاطي الزمني الطويل مع الأجهزة الحديثة، وقد دلت بعض الدراسات أن 70 في المائة من الطلاقات في بعض البلدان هي من افرازات التعاطي المزمن مع شبكة التواصل الاجتماعي.

ثانيا: غلبة قلة النوم الطبيعي لأفراد الأسرة الواحدة، وهو ما يساعد بشكل كبير على انتشار الحدة والعصبية واضطرابات في المزاج النفسي.

ثالثا: إنتشار مرض الكآبة والوحدة والتوحد.

رابعاً: بداية انهيار في منظومة الأخلاق والقيم الإجتماعية.

هذه الأمور كما يؤكد التميمي تجعل أرباب التربية والثقافة في سباق مميت مع الزمن لمجارات وسائل الإعلام وتقنيتها، وهذا ما يستدعي أن يكون للإعلاميين حضورهم المشهود لتثبيت القيم الإنسانية كل من موقعه.

الناشط الإعلامي الأستاذ باسم العوادي هو الآخر استخدم في الجلسة الثانية من الملتقى منهج الأرقام لبيان دور الإعلام في إخماد الفتن، مركزأ في محاضرته على مفهومي الإعلام والفتن من وجهة نظر إسلامية ومعرفية، معتبراً أن الإعلام مفردة منبثقة من العلم أي أنه نقيض الجهل، فهو الإخبار، في حين أن الفتنة مأخوذة من الصهر وتحويل الشيء الى حالة أخرى، فهي تحويل المرء عن رأيه، وبتعبير آخر هي كل ما يبث في المجتمع ويؤثر في حياة أبنائه بما يخرجهم عن جادة الصواب.

وأشار العوادي الى الإعلام في الأدبيات الإسلامية، مؤكداً أن مفردة (أذان) هي المرادفة لمفردة الإعلام، وهي بمعنى الإخبار، وقد كان الرسول (ص) إذا ما أراد إخبار الأمة بشيء جديد يدعو بلال الحبشي الى رفع الأذان لاجتماع المسلمين في المسجد، ومن ذلك دعوة الرب الجليل لنبيه إبراهيم(ع) في الآية 27 من سورة الحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، وعادة ما يرفع الأذان من مكان مرتفع وهو دلالة على أهمية الإعلام والإخبار، معتبرا أن تنوع الخطاب القرآني وتكراره في أكثر من سورة هو في واقعه رسالة مؤثرة في اللاشعور، وقد انتبه علماء النفس الى هذه الحقيقة وأكدوا في دراساتهم الحديثة أن تكرار نشر الصورة والخبر وبثهما في أكثر من نشرة خبرية وبرنامج يوجد أرضية في لاشعور الإنسان للتموضع يستحضر الصورة أو الخبر في أوقات معينة ربما بشكل لا إرادي، وهناك مؤسسات متخصصة في هذا الاتجاه تعمل على صناعة عقل الإنسان ولاشعوره بما تريد حسب توجهاتها.

ورأى العوادي أن التطرف من أشد أنواع الفتن بأنواعه الديني والطائفي والقومي والمناطقي والإعلامي وغيره، وقد برزت منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م مؤسسات عربية وغربية تعمل في هذا المضمار خالقة اعلاماً فتنويا مؤدلجا يشيع صراعاً دينيا بين الاسلام والمسيحية، وصراعا طائفيا بين السنة والشيعة، داعيا عقلاء الأمة ومن بيدهم مقود القلم والبيان الى مواجهة التطرف بارادة قوية تتجاوز الأفراد الى المؤسسات والمنظمات الاقليمية والدولية باعتبار أنَّ التطرف وافرازاته من ارهاب وعنف وخراب منتشر في كل مكان، مع اعتقاده الجازم بصعوبة تحقيق هذا الأمر نظرا للتجاذبات بين الدول والمصالح الاقليمية والدولية. داعيا في الختام زملاءه من الإعلاميين الى درء الفتن عبر التحلي بالموضوعية والتجرد عن الذاتية واعتماد لغة الأرقام والصدق والأمانة في نقل الحقائق والبيانات، وأن يكون الإعلامي لسان حال الجمهور.

الحضور المتنوع من الإعلاميين والصحفيين وأصحاب الرأي والقلم أغنى الملتقى بالمداخلات الكثيرة، فقد دعا رئيس مؤسسة الحوار الإنساني في المملكة المتحدة الناشط العراقي الأستاذ غانم جواد الى العمل الجاد من أجل خلق تقنية إعلامية لها أن تكون مؤثرة في المجتمع وفي الطرف الآخر.

 الناشط الإعلامي والإجتماعي اللبناني الدكتور أحمد الزين أشار بالأرقام الى الدور الذي تلعبه الدوائر العالمية الخفية والعلنية في تخريب عقل المتلقي العربي وغير العربي، فهناك 320 قناة فضائية إباحية و60 منها باللغة العربية هدفها نشر الفوضى الأخلاقية والاباحية الجنسية.

 المخرج العراقي الاستاذ بحر كاظم الحلي عبَّر من وحي خبرته المهنية أن الإعلام خرج من دائرة الرقابة الذاتية وأصبح البيت وسكانه أسير الملقي. المحامي والإعلامي البحريني الأستاذ محمد الشهابي أكد أن مسؤوليات الإعلامي مع تطور التقنية أصبحت ثقيلة، مثنيا على حديث الدكتور الكرباسي بضرورة التفكيك بين الإعلام والسياسة والإقتصاد.

 الناشط الاجتماعي والمدون العراقي الأستاذ محمد الحريري نوه الى أن تعددية مصادر الأخبار وتنوعها وسهولة ايجادها على شبكة التواصل الاجتماعي فتح باب التزييف، وزاد من ثقافة الكراهية ومعاداة المسلمين وارتفعت معها نبرة العداء للمسلمين الشيعة من قبل مجموعات وحكومات طائفية، طالبا بخلق جسر تواصل مع الشباب حيث أن 60 في المائة من الجمهور العربي المتلقي هو دون سن الثلاثين، معبراً عن أسفه لتأثر السياسي بما يمليه عليه الإعلام الزائف والمسيس. وعبر العراقي الأستاذ محمد وادي عن قناعته بأن إعلام أقطاب الخير هو إعلام خجول في حين أن الآخر يضرب تحت الحزام داعيا الى تشكيل خلايا ضغط إعلامية تعمل على تصحيح المسار.

 الكاتب والصحفي اللبناني الأستاذ جعفر الأحمر عبر عن قناعته بأننا نعيش في زمن لا نستطيع التحكم بوسائل الاتصال الاجتماعي وهذا ما يدعونا الى خلق بدائل جاذبة للجمهور. النائب البحريني السابق الأستاذ جلال فيروز أشار الى دراسة عن الحرب والإعلام تؤكد أن 80 في المائة من الحروب طابعها إعلامي والبقية حرب عسكرية وأن الموازنات في عدد من الدول تذهب الى الماكنة الإعلامية.

 الباحث في دائرة المعارف الحسينية عضو هيئة تحرير مجلة (الجامعة العالمية) الإعلامي العراقي الدكتور نضير الخزرجي تحدث عن واقع الإعلام في العراق كنموذج حي لضعف المهنية وقلة الخبرة والتخبط يمينا وشمالاً في إنشاء وسائل إعلام مختلفة تتصف بعضها بالخوار حتى أصبح الإعلام مهنة من لا مهنة له، ومن لا يجد وظيفة بشهادته يتخذ من الإعلام مركبا، فلم يستطع إعلام ما بعد 2003م مجاراة إعلام الآخر المعادي للتجربة الحديثة رغم كثرة القنوات الفضائية والصحف والمجلات وأكثر من عشرين ألف إعلامي مسجل في نقابة الصحفيين العراقيين، لكن الاعلام الحديث معظمه فقاعات وغث لا يغني ولا يسمن، حتى أصبح المواطن العراقي الضحية منذ أربعة عقود ونصف وبفعل الإعلام المعادي الناطق باللهجة العراقية والعربية، هو الجاني، معادلة صعبة تستدعي الإلتفات إليها حتى لا يتحول الجاني الحقيقي بسبب الضخ الإعلام المعادي الى ضحية ولتعود من جديد المقابر الجماعية وعمليات التهجير القسري وترجع الصوايح والنوايح تضرب أطنابها في البيت العراقي.

هذا وفي غضون المداخلات أجاب كل من التميمي والعوادي على عدد من الأسئلة قدمها الحاضرون، فيما اختتم الملتقى الإعلامي بقصيدة من وحي المناسبة للشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين. والمفيد ذكره أن هذا الملتقى يأتي في سياق سلسلة ملتقيات شهرية يعقدها المركز الحسيني للدراسات بلندن في أغراض متنوعة.

اضف تعليق