q

لم تستطع التقسيمات المختلفة للمشتغلين بحقول الفكر والثقافة أن تنفي حالة التبعية التي يمارسها المثقفون للسلطة الحاكمة تارة أو للأدلجة التي يتبنونها ويدافعون عنها بشكل يشبه التطرف إن لم يكن تطرفاً فعلاً.

فعلى الرغم من وجود أنماط ومستويات متعددة لتصنيف المثقفين كنمط التراجيديين الذين ظهروا بعد نكسة حزيران 1967 والإخفاق أمام إسرائيل وما تلاه من انكسارات وإحباط أصابت النخب الثقافية لدرجة اليأس من كل مستقبل أو من فكرة التفكير فيه، ونمط المثقف البديل أو البدائلي الذي ظهر في بداية العقد الثمانيني من القرن العشرين الماضي حيث طالب المثقفون الذين يمثلون هذا التوجه ومنهم المفكر المعروف (محمد عابد الجابري) بتبني نظريات جديدة مستحدثة أكثر واقعية وقرباً من المشكلات المجتمعية لكنها لم تصمد أو لم تحقق غايتها لعدة أسباب، ونمط آخر ثالث يتمثل في سماسرة الثقافة أو ما يصطلح عليه بـ (المقاولين الثقافيين) الذين يحترفون التنظيرات الجاهزة والمفصلة على مقاسات سلطوية أو حزبية مقابل صفقات مالية يسيل لها اللعاب النخبوي حيث لا وقت حينها للتفكير بالمبادئ والقيم والأخلاق، هذا النمط الأخير صار بينه وبين مجتمعه وقضاياه بون شاسع ومساحة كبيرة للتنافر ولا مجال لأن تضيق.

نقول: على الرغم من تعدد هذه الاتجاهات والمستويات نجد أن النمط الأخير هو الأعلى صوتاً والأكثر حضوراً أمام تلاشي النمطين الذين سبقاه لدواع تتعلق بالظرف الزمني والمرحلي الذي شهد تداعيات وأحداثاً مختلفة.

وإذا ما أردنا أن نكون واقعيين أكثر في التنظير لحالة التبعية الثقافية للراهن السلطوي والمؤسساتي فلا مناص عندها من الخوض في اتجاهين من الفكر يختلفان على صعيد المتبنيات الايديولوجية لكن ثمة خيط يربط بينهما وهو خيط المثقف التابع بصرف النظر عن كونه سلفياً يتماهى مع إسلام تقليدي متعاطياً أفكاراً لاتريد أن تنظر لأبعد من نظرة تكفيرية متشددة أو آخر علمانياً ينظر بشكل يدعو للاستغراب للنص الديني من منظور تأريخي قاصر، فكلا المثقفين دجّنا نفسيهما لأنساق مرحلية وقتية دون الإلتفات إلى أنها يمكن أن تداعى وبوقت غير متوقع.

وحتى لايكون كلامنا غارقاً في التنظير لابد من الخوض في بعض السلوكيات الثقافية التي أكدت وتؤكد ما نحاول إضاءته من قضية التبعية التي يمارسها المثقف.

مؤخراً، أقدمت السلطات الحاكمة في السعودية على إعدام رجل الدين الشيعي الشيخ (نمر باقر النمر) وهو الذي كان يجاهر بمعارضته لتسلط العائلة الحاكمة داعياً لتغيير هذا النظام المتحكم بمصير البلاد والعباد والداعم مالاً ومؤسسات لجماعات التكفير والإرهاب التي نشرت الرعب والخوف في أماكن عديدة من العالم، ولو أخذنا ردود أفعال النخب الثقافية خصوصاً في منطقة الخليج لوجدنا أنها تمثل الوجه الأنصع للمثقف التابع، فقد مُلئت شاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية بالكثير من التحليلات الساذجة والتي نظرت للحادثة بعين عوراء، تحليلات لأكاديميين ونخب حيّت الفتح السعودي المتسلط معتبرة الشيخ النمر ارهابياً يهدد السلم الأهلي والمجتمعي، لكن هذه النخب تعمدت إغفال حقيقة أنه عبر عن رأيه فقط دون التحريض على العنف كما تعمدت عدم الحديث عن الآليات التي أجريت المحاكة على أساسها فضلاً عن عدم إثبات شيء على الرجل لدرجة إزهاق روحه ومصادرة حياته بهذه الوحشية الصحراوية.

هذه النخب تعرف تماماً أن النمر لم يتلق محاكمة عادلة ونزيهة ويعرفون أبعاد وتوقيت تنفيذ هذه الجريمة طائفياً واقتصادياً وعسكرياً خصوصاً بعد هزيمة تحالفهم الهش في اليمن، لكن تبعيتهم تمنعهم من الحديث عن هذه المعطيات لأنهم إن فعلو -ولن يفعلوا- فأنهم سيفقدوا هبات السلطان وسيجدون أنفسهم خارج الحسابات التي استماتوا كي يكونوا من رجالاتها المخلصين.

ولكي لانبدو وكأننا متحاملون على المثقفين السلفيين، ولنعدل كفة الميزان الناقدة لتبعية المثقف، لابد من الحديث إلى الاتجاه الثقافي الآخر والممثل بالمثقف العلماني الذي جعل من لهاثه خلف السلطات سُلماً يرتقيه من أجل غايات ذاتية.

في العراق مثلاً وفي فترة الحرب العراقية الإيرانية كانت الصحف والمجلات ملأى بقصائد الشعر المطبلة للحرب التي أتت على أخضر البلاد ويابسها فضلاً عن المقالات والدراسات المنهمكة باكتشاف حكمة (القائد الضرورة) وتحيي مصادرة الإنسان وحريته وكرامته وكانت تربط كل شيء بحكمته حتى وإن كان حديثاً في الفيزياء النووية!

وبعيداً عن التبعية للسلطة قريباً من التبعية للمؤسسة أو الحزب، نجد أن الكثير من المثقفين أصبحوا أسارى الأدلجة كما في تجربة (الجبهة الوطنية) منتصف السبعينات في العراق والتي أثمرت عن تحالف حزب البعث ذي التوجهات القومية والحزب الشيوعي المعروف بميوله الأممية، وليس خافياً الصراع الذي عاشه التياران والذي بلغ أوجه في فترة قيام الجمهورية العراقية بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 والذي قاده عبد الكريم قاسم وأطاح بالنظام الملكي الحاكم في العراق لينتهي الصراع دموياً بإعدام (زعيم الثورة) في مبنى الإذاعة والتلفزيون وسيطرة القوميين على مقاليد الأمور بشكل كامل وقتل زعماء اليسار وتشريدهم.

السؤال أو الأسئلة هنا: أين القراءات الواعية للنخبة المثقفة لتلك المرحلة؟ ماسر هذا الإنصهار الكامل بالأدلجة؟ وهل أن صعود تيارات دينية تمثل الفكر الشيعي لمشهدية العمل السياسي يتيح أو يبرر تحالف الرفاق الأعداء؟

في فترة مايسمى بالجبهة الوطنية بجناحيها البعثي والماركسي كانت القيم والمبادئ مركونة على رف المرحلة وضروراتها، فالبعثيون يدركون أنهم سينقضّون على صغار كارل ماركس آجلاً أو عاجلاً وما التحالف الجديد هذا الا لتدعيم الجبهة العلمانية أمام الصعود السياسي الشيعي، بينما راح بعض الشيوعيين وبغباء مؤدب يكتبون عن هاجس المستقبل الإشتراكي في فكر الرفيق صدام حسين حتى ملأوا صفحات جرائدهم ومجلاتهم بالتنظيرات الوردية المبشرة بعراق التمدن وحرية المرأة حتى عام 1978 الذي شهد بداية حملة تشريدهم وتصفيتهم فهم الملحدون الكافرون والمتنكرون للدين (بصيغته العروبية) بينما عادت مصطلحات الشوفينية والظلامية تنتعش على ألسن من بقي حياً من الشيوعيين المبعثرين في أقطار الأرض.

أذن، هل نحن أمام أزمة المثقف المنتمي؟ أم المثقف المنتمي الذي لايملك الا تقديم فروض الطاعة والولاء للسلطة والأدلجة؟

هل صار بإمكاننا اليوم أن نحلم بنخبة ثقافية ترمم الذات من تصدعاتها وانكساراتها الكثيرة؟ نخبة تؤشر على مواضع الخلل واضعة أصبع الحقيقة على الجرح.

يقول الناقد جمال جاسم أمين "نخفق في تشخيص ملامح هذه النخب هل هي أجرام سماوية تأتي من خارج هذا الكوكب أم هي كائنات عادية عاشت معاناة الناس ذاتها وبالتالي فهي تتأثر بما يتأثرون به؟ أقول باختصار: إذا كانت هذه النخب ذات ايديولوجيا سياسية/رأي مسبق/قراءة أحادية فأن التعويل عليها يعني العودة إلى المربع الأول".

يدعو الناقد جمال جاسم أمين هنا إلى نخبة ثقافية غير منتمية تتحدث بحرية تبعدها عن أي منطق يجعلها تابعة لأن الإنتماء يجعلها تخوض صراعاً مع الآخر ليس من أجل فكرة أو حالة معرفية تنضج مع المختلف بل من أجل إثبات النفس بشكل أقوى من الآخر المؤدلج المناوئ حيث تقاس صحة الآراء بقوة انتماء من يطلقها لا بقوة الحجج والبراهين ليصير اللامنتمي -بحسب الناقد أمين- رقماً خاسراً في ماراثون الأرقام الكبيرة.

إن أسباب غياب الفعل الثقافي الحقيقي تتعدد إلى اقتصادية ومجتمعية وربما نفسية أيضاً تتطلب دراسة السياقات التي ساعدت في بروز ظاهرة التبعية الثقافية والإلتفات إلى انزواء القلة من النخب الحقيقية أمام صعود أنصاف المثقفين ليتصدروا المشهد بأساليب متعددة بحيث صار من السهل أن نشاهد من يترأس فضائية تلفزيونية على سبيل المثال بسبب تبعيته السلطوية او الحزبية وبالتالي يكون على رأس مؤسسة مملوءة بالتابعين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق