q

لا يوجد تعارض في بناء الانسان ضمن ترسيخ المزايا الفردية، شريطة أن لا يقوم ذلك على عزل الانسان عن محيطه، او تنمية النزعة الفردية فيه على حساب التناغم مع المجتمع، فالغاية الأهم في قضية البناء الفكري والنفسي والمادي للشخصية، تكمن بتنمية وتطوير العمل الفردي في إطار الجماعة، فلا فائدة بالعمل الفردي عندما يكون ذا نكهة أنانية.

ثمة قيم ينبغي أن نجدها في شخصية الفرد، أهمها الانسجام مع الكل، والعمل مع الكل، مع الاحتفاظ بالمزايا الفردية، يعرّف بعضهم شخصية الانسان، بأنها مجموعة من القيم التي تتوزع بين نقيضين، هما الخير والشر، وكلما كانت قيم الخير أكثر حضورا في بناء الشخصية، كلما نجح الانسان الفرد في حياته، وطالما أن الفرد هو اللّبنة الأصغر في النسيج المجتمعي، فإن نجاح الأخير يعتمد بصورة مباشرة، على بناء الشخصية الفردية الناجحة، ولكن ينبغي التنبّه الى روح العمل الجماعي دائما..

يتضح هنا أن العمل بروح الفريق الواحد، يمثل حاصل مؤكَّد لمجموعة قيم الخير التي تُزرَع في شخصية الفرد، وهكذا يستدعي البناء المجتمعي تحركا متواصلا ومبرمجا، لبناء الشخصية السليمة منذ ولادتها، عبر الحرص والعمل المنظَّم لزرع قيم الخير، في شخصية الانسان منذ بدايات النشأة والنمو، لأنها ستنمو مع الانسان وتكبر معه، وتصبح جزءا لا يتجزّأ من تكوينه المادي والفكري في وقت واحد، فيحصل المجتمع على فرد منتِج ذا شخصية عملية، مستعدة دائما للعمل بمنهج الجماعة والانخراط معها بعيدا عن الأنانية التي تقتل الموهبة.

يقول المعنيون بالمجتمع حول العمل الفردي والكلي، لقـد أصبح العمل الجماعي مطلبا حضاريا ومعاصراً للتغلب على مشكلات العمل الفردي، وتجنب الكثير من سلبياته وترشيد القرار، ولكن هذا المطلب الحضاري المعاصر يستلزم تهيئة وإعداد من الناحيتين الفكرية والعملية والتدريبية على السواء، ونقصد بالإعداد الفكري، تكوين المعرفة اللازمة عن العمل الجماعي، قاعدة المعرفة المولّدة للإيمان به كمنهج سلوكي عملي وتوفير القناعة الكاملة.

أما المقصود بالإعداد العملي، فهو الاختيار الأنسب للنشاطات والمهام التي يناسبها جماعية العمل أو روح الجماعة فيه، في حين أن المقصود بالإعداد التدريبي هو المران والمراس على كيفية التطبيق وأدواته وطرقه حتى تصبح الفكرة سلوكا عمليا ومهارة مكتسبة، ولكن ينبغي التنبّه على التوافق بين النشاط الفردي والجماعي وعدم التعارض بينهما.

الانطواء والتضخّم الذاتي

من اخطر الأمراض النفسية التي تصيب الفرد، عندما تتضخم ذاته بسبب الغرور والتعالي، ومن ثم الانطواء، وعزل الذات في البرج العاجي، عندما يظن أنه بات متفوقا على الكل بكفاءته ومزاياه، وهو شعور يستند الى تضخم الذات وغرورها، لذلك هو شعور وهمي لا أساس له على أرضية الحقيقة، فلا بد أن يستند عمل الفرد الى قيم العمل الجماعي كي يضمن النجاح.

وعندما يفتقر الفرد للقيم الجماعية، سوف يخسر فرص الاندماج بالكل، ويخسر فرص النجاح، فلا قيمة للعمل الفردي اذا كان محصورا بالفرد وحده، لذلك من بين هذه القيَم الفعّالة، قيمة العمل الجماعي، إذ يبدأ الانسان حياته طفلا، منحازا الى التعاون والعمل المشترك، وميّالا نحو التعامل الجماعي بأنواعه كافه، فتتبلور فيه شخصية جماعية النزعة، تنبذ الفردية، وما قد يتبعها من سمات وصفات مؤذية للذات والآخر في آن، مثل الأنانية والانطواء والتضخم الذاتي، وعدم احترام الرأي الآخر، والغطرسة أحيانا، وكل هذه السمات تتدخل على نحو سافر في بناء شخصية هدّامة، لن تصب في صالح الفرد ولا في صالح الجماعة.

هنا تكمن نظرة علماء الاجتماع الى الأنانية على أنها مرض يقوم على تضخّم الذات والانطواء، والنظرة القاصرة للعمل في إطار الجماعة، لذلك تعدّ الأنانية نتاج حتمي لغياب أو ضعف قيمة العمل الجماعي، وتعني الانانية التخلف بكل ما ينطوي عليه من نتائج مدمرة، فحين يضعف أو يغيب الوعي السليم، تزدهر الغرائز الحيوانية التي تفضل الذات على الآخر، وتدفع الى سلب حقوق الآخر، وفي هذه الحالة سوف يعمل الانسان لنفسه فقط وينسى الآخرين، وهذه من اخطر الحالات التي يمكن أن يتعرض لها الجماعة عندما يشذ الفرد عنها.

كذلك يرى علماء الاجتماع أن الخسائر التي تنتج عن العمل الفردي المعزول عن الكل، قد تكون وخيمة، على العكس من العمل الفردي المنتمي للجماعة، حيث يؤدي انعدام قيمة العمل الجماعي في بناء الانسان بالنتيجة، الى صناعة الشخصية الدكتاتورية، بمعنى أن الشخصية التي تنشأ في ظل قيم الصراع والتنافس السلبي، والانعزال والابتعاد عن الآخرين فكرا وعملا، تنمو في أجواء رافضة للجماعة وقيمها الاخرى، وخسارة القيم تعني الابتعاد عن روح العمل الجماعي، او التنكّر للعمل ضمن روح الفريق الواحد.

لا لصناعة الدكتاتور

من اخطر مساوئ عمل الفرد لنفسه، أنه وإن كان لا يقصد العمل لصالح الدكتاتورية، لكنه يقع بالنتيجة في هذا الفخ، كذلك تكون هنالك خسائر واضحة للقيم المجتمعية المهمة، كالتعاون والتكافل وحب الآخر واحترام خياراته، ومساعدته على انجاز الاعمال او الافكار وسواها مما يدخل ضمن الانشطة البشرية المتنوعة، وبهذا تتشكل مثل هذه الشخصية وفق معايير تنحو الى الفردية والتسلط والتعالي على الآخر، وهكذا يصبح المسؤول، أو الانسان أيا كان نوع عمله ومركزه ومنصبه أو مهامه الوظيفية، دكتاتورا في ادارة أعمال مؤسسته أو دائرته أو مدرسته او عائلته، لذا ينبغي التنبّه الى أهمية دمج العمل الفردي مع الجمعي، حتى يكون هناك توافق بين النوعين، يعمل أحدهما من أجل تطوير الآخر.

علما أن هناك تجارب تؤكد نجاح العمل بروح الفريق، مع الحفاظ على الطاقات والكفاءات الفردية، فيمكن للفرد ان يتميز ايضا داخل الجماعة، ولو أردنا أن نستعين ببعض تجارب التاريخ التي أثبتت قدرة العمل الجماعي على البناء المجتمعي السليم، فإننا لابد أن نستعيد التجربة اليابانية في هذا المجال، وما تمخض عنها من نتائج باهرة، حيث ارتقى المجتمع الياباني، الى مصاف المجتمعات التي تقف اليوم في صدارة المجتمعات المتقدمة.

لذا لابد من القول أن المجتمع الياباني يقف اليوم في طليعة المجتمعات التي نجحت في بناء الشخصية المدعمة بالقيم الايجابية، بعد أن زرعوا في الفرد جميع القيم السليمة، ومن أهمها قيمة العمل الجماعي، التي تدخلت في جميع الانشطة الأهلية والرسمية على حد سواء، فتم بناء هذا البلد المدمّر كليا في الحرب العالمية الثانية، ليصبح بلدا نموذجيا في البناء والتطور على مستوى العالم اجمع.

كذلك هناك تجربة يابانية اخرى في هذا المجال عندما تمت معالجة النتائج الخطيرة للزلزال الذي ضرب هذا البلد وما تسبب به من مشاكل نووية قاتلة هددت حياة الآلاف من المجتمع الياباني، وكيف تمت معالجة هذه المخاطر القاتلة بروح جماعية منظمة نالت إعجاب العالم.

هذا المثال وسواه، لابد أن يحثنا ويدفعنا صوب التركيز على قيمة العمل الطوعي، ومن أهم الخطوات في هذا الجانب، هو التحرك المتواصل من لدن جميع من يعنيهم الامر، حكوميين وأهليين، لنشر قيمة العمل الجماعي وايجابياتها، بين جميع مكونات وشرائح المجتمع وفئاته العمرية كافة، على أن يتم التركيز على مرحلة النشأة، وهذا ما ينبغي أن يتبناه المجتمع الناجح، بالتعاون مع الجهات المعنية كافة، لتشجيع الاندماج والتداخل المنسجم بين الفردي والجمعي.

اضف تعليق