q

منذ نهاية عام 2010 أخذت ثورات الربيع العربي تعصف بدول الشرق الأوسط، حتى أطاحت بأربعة أنظمة، وبالرغم من أن هذه الثورات مهدت أرضية الديمقراطية في بلدين -وأن كانت هشة-غير أن نيرانها أحرقت ثلاثة بلدان وأكثر، فكان البديل هو عدم الاستقرار النظامي في دول الشرق الأوسط، مع ارتفاع شدة الخلافات والتوترات البينية بين الكثير من دول المنطقة.

وهي الفرصة التي عززت من قدرة الحركات والتنظيمات الاسلاموية المتطرفة على أثارة النزاعات والصراعات التي بدأت تكتسي بطابع هوياتي مسلح، مما جعل نظام الدولة في الشرق الأوسط الذي أوجدته اتفاقية سايكس بيكو عرضة للانهيار والتبدل. ذلك بأن تنظيم "القاعدة" وأخواته من التنظيمات المسلحة لم تكن بمنأى عن هذه التطورات، لتوظيف ما يجري في الشرق الأوسط لصالح تمددها وتوسع أنشطتها الإرهابية، فكان "داعش" الذي أحسن استغلال الظروف الأمنية والسياسية التي تمر بها سوريا والعراق، ليعلن (خلافته) و(دولته الإسلامية) المزعومة عقب احتلاله مدينة الموصل وغيرها من المدن العراقية في العاشر من حزيران 2014.

ونظرا لطموحه ومشاريعه التوسعية التي لا تعرف معنى الحدود، وتنطلق من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى القوقاز مروراً بآسيا الوسطى وصولاً إلى عمق أوروبا، اضحى "داعش" لا يهدد العراق وسوريا فحسب، وإنما الكثير من دول الشرق الأوسط والعالم. ومع جدية ذلك التهديد الذي يحيق بالنظام الإقليمي في الشرق الأوسط، لم يكن التفاعل الأمريكي مع هذه الأحداث بذلك المستوى الذي يرقى بالقوى العظمى الوحيدة في النظام الدولي.

يا ترى ما سبب هذا التراجع أو الانكفاء الأمريكي في الشرق الأوسط؟ وهل هو تراجع كما يراه الكثير أم انشغال؟.

قد يبدو لأول وهلة، أن التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط ينم عن ضعف أو سوء إدارة، أو هو امتداد لتراجع أمريكي عالمي تجسده تحولات القوة في النظام الدولي، ونهاية الأحادية القطبية وبداية التعددية القطبية وغيرها من المسميات الدارجة في الوسط الاكاديمي والإعلامي، ولكن وفق المعطيات العلمية الدقيقة والاعتبارات الاستراتيجية الأمريكية، نعتقد وبقدر كبير من الثقة أن التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط لا يعبر عن ضعف في القوة الأمريكية، بقدر ما يعبر عن انشغال في أولويات أخرى تفوق أهميتها؛ أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الأمريكية.

فاليوم وبعد مرور ثمانية سنوات على الأزمة الاقتصادية العالمية، تعافت القوة الاقتصادية الأمريكية إلى درجة كبيرة مقارنة بالأعوام السابقة، وخلقت إدارة أوباما أكثر من 11 مليون وظيفة جديدة، وانخفض معدل البطالة التي خلفتها الأزمة المالية إلى أدنى مستوياتها في الولايات المتحدة، ناهيك عن انخفاض مستوى التضخم وزيادة مستوى النمو الاقتصادي. ولعل هذا التعافي هو الذي دفع مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي إلى قرار رفع سعر الفائدة لأول مرة منذ 2008، وهو القرار الذي يؤشر على متانة الاقتصاد الأمريكي ونهاية حالة انكماشه. ولهذا لا يبدو تفسير التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط إلى الضعف مقنعاً.

ولعل أفضل معطى يمكن أن نستدل به لبيان الانشغال الأمريكي عن الشرق الأوسط وتبدل الأولويات، هو استراتيجية الأمن القومي لعام 2015.

فمن بين الركائز التي أكدت عليها وثيقة الأمن القومي هي: أن الأولوية لإعادة التوزان في آسيا الباسفيك لمواجهة الصعود الصيني عبر تعزيز الحضور الأمريكي وتوسيع التحالفات في تلك المنطقة. والتأكيد على مبدأ الصبر الاستراتيجي، أي تعزيز عناصر القوة الأمريكية الشاملة، وعدم الانجرار وراء الصراعات حول العالم، ومحاولة تحقيق نتائج سريعة باستخدام القوة العسكرية. وبالنسبة للشرق الأوسط أكدت وثيقة الأمن القومي، إن المنطقة ستبقى قابلة للاشتعال في ظل وجود المتطرفين الدينيين والحكام الذين يرفضون الإصلاح الديمقراطي.

والاهم من كل ذلك، حددت وثيقة الأمن القومي أن البيئة الاستراتيجية العالمية غير ثابتة وآخذة بالتغير والتبدل، مما يتطلب الموازنة بين الأوليات المتنوعة، وعدم إيلاء الأهمية لتهديد وحيد أو منطقة منفردة.

من هنا يمكن بيان الانشغال الأمريكي عن الشرق الأوسط، فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، اضحى الإرهاب ومحاربته في الشرق الأوسط يطغى على البيئة الاستراتيجية العالمية، ولكن بعد بزوغ الصين وعودة روسيا من جديد لتحدي الولايات المتحدة، وتنامي سيولة القوة بين الفاعلين من غير الدول، بات الشرق الأوسط لا يشكل بمفرده مجمل البيئة الاستراتيجية العالمية، ولهذا أكدت وثيقة الأمن القومي لعام 2015 بالقول: "إن هذه الاستراتيجية تتحاشى توجيه كامل سياستنا الخارجية حول تهديد منفرد أو منطقة معينة".

وبسبب تغير معطيات البيئة الاستراتيجية في عالم اليوم، تغيرت مصادر الخطر هي الأخرى؛ إذ ترى إدارة أوباما أن مصادر الخطر تكمن في العولمة والتقدم التكنولوجي الهائل الذي أتاح إمكانيات لأفراد، كانت في الماضي حكرا على دول، الأمر الذي عزز قدرات الإرهاب. كما أن تصاعد القوتين الروسية والصينية، وسياساتهما المستفزّة لجيرانهما، يفرض تحديات من نوع آخر على الولايات المتحدة وحلفائها والنظام الدولي برمته.

فبحسب رؤية إدارة أوباما، مع تغير مصادر التحديات والتهديدات الدولية وطبيعتها، من الضروري أن تتغير مصادر القوة الأميركية وتتنوع، وذلك إن أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على موقعها القيادي على الصعيد الدولي؛ بمعنى ألا تتورط في حروب جديدة غير محددة الأهداف ومعروفة المعالم، بما يعني مزيداً من الاستنزاف الأميركي على شاكلة ما ترتّب على حربي أفغانستان والعراق في الشرق الأوسط.

ولهذا ليس بغريب القول، بإن الولايات المتحدة لا تريد الانغماس في الشرق الأوسط، ولا تريد التورط عسكرياً في المنطقة، تجنباً لاستنزاف عناصر قوتها الشاملة، وتفاديا في إعطاء الفرصة لخصومها حتى لا تزاحمها القوى الأخرى في قوتها ومكانتها في النظام الدولي.

ومع ذلك، فان المصالح التي كانت تدفع الولايات المتحدة للانغماس في الشرق الأوسط قد تغيرت إلى حد كبير، فاذا كانت مسألة تأمين مصادر وإمدادات الطاقة في دول الشرق الأوسط تحظى بأهمية لدى الولايات المتحدة وتدفعها للتدخل، فأنها اليوم على رأس دول العالم في إنتاج النفط والغاز، مما قلل كثيراً من حاجتها للنفط العربي.

أما بخصوص أمن إسرائيل الذي لم تخفي أهميته أي من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، يمكن القول: إنه في ظل الأوضاع التي تمر بها المنطقة، ليس هناك دولة في مأمن نسبي أكثر من (إسرائيل)، وهذا ما أكده سفير إسرائيل السابق في الولايات المتحدة مايكل أورين بالقول: "انه على الرغم من الاضطراب السياسي الداخلي والمخاطر التي تهدد المنطقة، إلا إن إسرائيل تمثل واحة الاستقرار النسبي في منطقة غير مستقرة. وأضاف "تستطيع إسرائيل الاستفادة من الأوضاع الراهنة لتعزيز موقعها الجغرافي الاستراتيجي في المنطقة".

ولعلنا لا نغالي إذا قلنا، إنه في وسط الاقتتال الداخلي الذي يعصف ببعض دول الشرق الأوسط، أصبحت الأنظار تتبعد عن الخطر الإسرائيلي بإتجاه خطر التنظيمات المسلحة وعلى رأسها داعش الذي أصبح وجوده يقوض مكانة الأنظمة العربية في الشرق الأوسط. ناهيك عن إن الحضور الإيراني في المنطقة قاد إلى تحول غير مسبوق في نمط التحالفات والصراعات، إذ أن صعود ما يسمى الخطر الإيراني في المنطقة كمصدر للتهديد أدى إلى تقارب غير مسبوق في علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل. حتى ضعفت نسبة التهديدات التي تحيق بها في الشرق الأوسط من الدول العربية، وبالتالي قلل ذلك من أهمية أمن إسرائيل كدافع أو مبرر للوجود الأمريكي في المنطقة.

ونظراً لانشغالها عن الشرق الأوسط وتبدل أولوياتها، أخذت إدارة أوباما تتجه إلى خيار جديد للتعامل مع الصراعات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، فبدلاً من التواجد المباشر في المنطقة، بدأت تعتمد على مبدأي التوازن من الخارج، والقيادة من الخلف، مفضلة العمل الجماعي على الأحادي، لتوزيع الأعباء على الشركاء وتفادي التكاليف الأحادية، ويعد التحالف الدولي لمكافحة داعش أحد الأمثلة البارزة في هذا المجال. وقد تبدو هذه السياسة للكثير دليلا على الضعف والتردد، أو تعبر عن ارتباك في مركز صنع القرار الأمريكي، نتيجة لأمثلة التقلب والتردد في الموقف الأمريكي حيال الأزمات التي تعصف بالشرق الأوسط في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، ألا هذه الرؤية تفقد مصداقيتها قبالة التحميص الموضوعي الدقيق.

ذلك بأن النظرة العميقة تؤكد: أن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تتماهى مع التوجهات التي وضعها الرئيس باراك أوباما في وثيقة الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، والتي أكدت على تصفية الحروب المباشرة التي ورثتها إدارة أوباما عن إدارة جورج بوش، وتقليص التواجد العسكري الأمريكي في الخارج، والامتناع عن خوض حروب في المستقبل. فبدلاً من القيادة من الأمام والتدخل المباشر لحل الأزمات والصراعات كالحالة مع سياسة الرئيس السابق جورج بوش، أكدت الوثيقة على القيادة من الخلف عبر إعطاء مساحة أكبر لحلفائها وشركائها لخوض مواجهات بدعم أمريكي لوجستي وغطاء سياسي. وقد تم تطبيق هذا المبدأ في ليبيا تحت غطاء حلف الناتو، ويطبق بشكل مقارب في العراق وسوريا، حيث يقدم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الدعم الجوي -وفق شروط معينة- لقطاعات الجيش العراقي وبعض المجموعات السورية (التي تصنفها واشنطن بالمعتدلة) لتقوم بالعمليات البرية لمكافحة تمدد تنظيم داعش. وهذا ما أكده أوباما بقوله "لا يمكننا فعل ما يجب على العراقيين فعله بأنفسهم، ولا نستطيع أخذ مكان العرب لتأمين منطقتهم". ومع ذلك جرى تطبيق مبدأ القيادة من الخلف في اليمن، وهو ما تمثل في الدعم الأمريكي للتدخل العسكري الخليجي في اليمن.

ولا يقتصر مبدأ القيادة من الخلف على الدول فحسب، وإنما حتى على الفواعل المحلية من غير الدول، ودعمهم رسميا أو عبر القنوات الخلفية غير الرسمية؛ من خلال التدريب والتسليح والدعم الجوي واللوجستي، مما يمكن الولايات المتحدة من إدارة التوازنات الداخلية والتحكم بمخرجاتها السياسية والعسكرية.

وقد أكدت استراتيجية الأمن القومي لعام 2015 على أن هذا التحول الجديد في التعامل مع الأزمات، قد خفض من عدد الإصابات الأمريكية بصورة كبيرة، وسمح للولايات المتحدة بإعادة اصطفاف قوتها ومواردها لمواجهة مجموعة متطورة من التهديدات، وأدى في الوقت نفسه إلى ضمان الأهداف الاستراتيجية الأمريكية.

لذلك لا يخطئ من يظن بأنه جراء التغيير في أولويات السياسية الخارجية الأمريكية أثناء إدارة الرئيس أوباما تراجعت أهمية الشرق الأوسط في المدرك الاستراتيجي الأمريكي، وذلك يحيلنا إلى عدم عزو التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط إلى الضعف، بل إلى الانشغال وتبدل الأولويات، التي تفرض ضرورة التكيف مع عصر أمريكا في الباسفيك، والاهم إلى اختلاف أسلوب التعامل مع الأزمات والصراعات الذي يمكن لأي مراقب حصيف أن يلحظ ذكائه، فمن كل التحولات والتطورات السياسة والاقتصادية والأمنية التي يشهدها النظام الدولي خرجت الولايات المتحدة بأقل الخسائر الممكنة، وفرضت مصالحها وتحكمت بتوازنات اللعبة في الشرق الأوسط دونما خوض حروب مباشرة، ونجحت في تعظيم قوتها الداخلية على حساب منافسيها المحتملين، فالصين تشهد تحولات اقتصادية بنيوية قد تؤثر على مستوى نموها العالمي وبالتالي على قدرتها الاقتصادية التنافسية، في المقابل فان الاقتصاد الروسي أخذ بالتراجع؛ بسبب انخفاض أسعار النفط، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، فضلاً عن تكلفة انغماسها العسكري في سوريا.

ومع ذلك لا ينفي الكلام المتقدم أو يستبعد التغيير في الأولويات الذي من المحتمل أن يجري على المستوى القريب؛ سواء على يد الرئيس القادم، أو الرئيس الحالي، فيما إذا تحول الشرق الأوسط إلى ساحة المنافسة أو المواجهة الأولى بين الولايات المتحدة والقوى الكبرى وتحديداً روسيا والصين، لصالح تراجع حدة المنافسة في شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبي وصولا إلى الباسفيك.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق