q

بعد كل فترة تحوّل تمر بها المجتمعات، وماترافقها من أحداث على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يقفز إلى الأذهان السؤال الأبرز والملح عن دور المثقف النخبوي وموقفه من هذه التحولات التي لاشك ستترك آثارها وبصماتها واضحة على الراهن المجتمعي وعلى مستقبله -ربما- لأجيال قادمة.

وربما ينفتح هذا السؤال أو يتشظى -بمعنى أدق- إلى أسئلة أخرى تتماهى وتتجاور مع حالة الإحباط والتراجع التي ألقت بظلالها على النخبة الثقافية وجعلت دورها يبدو متلاشياً ومن هذه الأسئلة: هل يحتاج المثقف إلى من يعرفه بدوره؟ وهل هناك دور أصلاً أو وظيفة يمكن له أن يضطلع بها ويقوم بتأديتها؟ وهل يملك سلطة تمكنه من القيام بالدور المنوط به؟ ما سر نظرته الفوقية المتعالية على كل ما يحيط به؟ وغيرها من الاستفهامات التي تظل بحاجة ماسة إلى إجابات وتأويلات تكشف لنا أبعاد السلوك النخبوي وحيثياته ومبرراته.

لقد ظلت قضية تعريف المثقف مشكلة كبيرة أرّقت المثقفين أنفسهم بحيث لم يتمكنوا من الوصول إلى تعريف يعرفون به ذواتهم حتى لف هذا المفهوم ضباب كثيف أرجع محمد عابد الجابري أسبابه إلى انتقال المفهوم من الثقافة الأوروبية إلى العربية دون أن تتم (تبيئته) بالصورة التي تمنحه مرجعية محددة 1.

بينما يرى إدوارد سعيد أن المثقف هو "من وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي أو تجسيد أي من هذا وتبيانها بألفاظ واضحة لجمهور ما ونيابة عنه"2.

لابد -إذاً- مع تعدد التعريفات الخاصة بمفهوم المثقف وتباين الآراء فيه، لابد من الوصول إلى مقصدية دلالية لا تجعل من هذا المفهوم (مصطلحاً كريماً يطلق على كثيرين) خصوصاً مع تسارع الأحداث والمتغيرات التي تعصف بالعالم، والتي وضعت المثقفين على المحك وجعلتهم عرضة للتساؤل الجاد عن دورهم وعن جدوى هذا الدور ومدى فاعليته في ظل التطورات الحاصلة حيث أن الكثير منهم تخلوا عن وظيفتهم تجاه المجتمع بعدة مظاهر أبرزها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي حول المثقف إلى آلة معرفية تنتج المال المؤدلج ليصبح المال قيمة عليا جردته من صفته الثقافية.

الآن، وبعد هذا العرض الموجز قد يسأل سائل ما الذي ينبغي على المثقف فعله؟

نعتقد أن أهم شيء يجب أن يقوم به هو الوضوح والتصارح مع نفسه أولاً وقبل كل شيء آخر قبل أن يتصدى لأي دور نقدي للممارسات الاجتماعية وتشخيص سلبياتها وإيجاد الحلول لمشاكلها المستعصية، هذا الوضوح مع الذات كفيل بتقديم رؤى ناضجة تضمن عدم تسلل الأفكار المربكة لكثير من مثقفينا اليوم وهم يعيشون اليوم صراعاً لم يعد خافياً بين الثبات على الهوية أو التخلي عنها تحت مسميات وذرائع شتى. فالمثقف نتاج بيئته وعليه مسؤولية أخلاقية تحتم عليه النهوض بدوره، يقول غرامشي: "إن كل انسان هو انسان مثقف، ولكن ليس لكل انسان في المجتمع وظيفة المثقف"3.

هذا النص المعبر لغرامشي يؤكد أن وظيفة المثقف حالة خاصة ولايمكن ان تتم بالمفاضلة بين عمل فكري أو أدبي وآخر ذي جهد عضلي على سبيل المثال، بل من خلال المكانة والوظيفة التي يؤديها داخل بيئته الاجتماعية وتحديد موقعه في هذه البيئة حتى مع تعدد وتنوع المتبنيات الفكرية بين الإسلامي والماركسي و الليبرالي وغيرها من المسميات والمفاهيم التي تضع النخب في خانة التناقض والتطرف لدرجة التراشق وتبادل الاتهامات فهذا تكفيري وذاك ملحد وذاك يدعو لمحو الهوية ونسف التراث وتبني الغرب وغيرها من الحالات التي جعلت المثقفين سابحين في بركة إشكالية كبيرة.

عند هذه النقطة تبرز أمامنا حالة العلاقة بين المثقف والسلطة وهي التي مثلت أس الجدل عند المثقفين فمنهم من يرى أن المثقف الحقيقي هو الذي يجب أن يكون معارضاً دائماً للسلطة ناقداً لها، ومنهم من يرى أن الواقع يفرض أحياناً أن يكون له دور وسطي يمكنه من صنع الوعي المجتمعي.

وعن هذا الأركان الثلاثة، المثقف/السلطة/المجتمع، تقول الدكتورة إسعاف حمد: "كل من هذه الأركان الثلاثة يمتلك منطقه الخاص، أو نظامه الفكري الذي من خلاله يفكر ويسلك، وتبدو أنظمة الفكر هذه وخاصة في حالتنا العربية المعاصرة متناقضة أشد التناقض، وعندما ندقق النظر نجد أن التناقض بين منطق السلطة ومنطق المثقف هو الأكثر بروزاً، فالسلطة السياسية لا يهمها إلا واقع الحال الآني لأن هذا الواقع هو المحدد لاستقرارها، ومن ثم وجودها. والمثقف كما يصور نفسه انما يتحدث عن مأمول الحال دون اكتراث كبير بواقع الحال، وكلا الاثنين يتنافسان على المجتمع ومكوناته من اجل اكتساب شرعية الوجود، في صراع واضح للقدرة على التأثير، ومن هذا التنافس على ترويج كل طرف لمنطقه في المجتمع تنشأ الإيديولوجيا بصفتها الخطاب الأكثر قبولاً وإدراكاً لدى فئات المجتمع المختلفة (العامة puplic)"3.

وبهذه الرؤية تكون الفئات المجتمعية منقسمة ومتأرجحة بين اتجاه يمثل الانحياز التام والكامل للحظة الآنية التي تمثل الواقع المحدد لاستقرار السلطة ووجودها وآخر يبتعد عن هذه اللحظة يمثله المثقفون الذين وجدوا أنفسهم أمام تحولات ومتغيرات ضربت مفاصل مجتمعاتهم لذا فهم أمام مسؤولية ترتيب أوراقهم جيداً وإعادة قراءة أدوارهم برؤى جديدة تتوائم والمتغيرات الحاصلة وليس هناك أفضل من هذا الظرف الزمني لاستعادة المثقف لدوره الحقيقي.

الواقع العراقي بعد 2003 أفرز الكثير من التداعيات ذات العلاقة المباشرة بمسؤولية المثقف الذي وجد نفسه بمواجهة اتهامه بالانعزال بعيداً مرتضياً لنفسه دوراً هامشياً بسيطاً ليحتدم السجال بين مجتمع يتهم المثقف بالتعالي ومثقف يرى المجتمع سائراً باتجاهات تقترب من مسلمات تساهم في إنعاش اللحظات الآنية ليكون صريحاً أكثر باتهامه لمجتمعه بالتخلف فزادت الهوة بين الطرفين، لذلك صرنا بحاجة إلى نقد صريح يتجاوز قشور السجالات لينفذ إلى لب المشكلة، نقد لايختصر فكرة الثقافة على المجالات الإبداعية والأجناس الكتابية والفنون المختلفة ويجعلها حبيسة أنساقها التعبيرية مما يجعلنا نخلص لفكرة ثقافية تقنية لا أكثر، فكرة غير معنية سوى بالصرخات والشكاوى التي تزخر بها النصوص الكتابية أو الفنون من دون أن يكون هناك سعياً جاداً للكشف تبتعد عن اطلاق التبريرات والأعذار الجاهزة.

نحتاج اليوم لفك طلاسم اللغز الذي أحالتنا إليه أحداث ما بعد 2003، لابد من تصارح المثقفين وتصالحهم مع ذواتهم ووضع الأصبع على جرح المشكلة الثقافية قبل الانطلاق بجدية في عملية الإصلاح الثقافي الذي يتكامل مع اصلاحات مجتمعية كون المجتمع حاضنة لإنتاج الثقافة التي تقدم قراءات مغايرة للسائد وتستنطق المسكوت عنه بحيادية وتجرد لإضاءة ما تم التعتيم عليه سابقاً والذي كان يخضع لآليات تحكمها الأدلجات المختلفة.

.............................................
1 محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية،مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص14
2 الرفاعي، زيد: إدوارد سعيد وأسلوب المثقف، مجلة الثقافة الجديدة، العدد331،ص73
3 كريم أبو حلاوة: المثقف العربي، اشكالية الدور المفقود، مجلة الوحدة، العدد السادس،1990،ص86
4 د. اسعاف حمد: المثقف العربي، إشكالية الدور الفاعل، بحث منشور في مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، العدد 443، 2014

اضف تعليق