q

العاقل لا تعنيه الهويّة وانّما يعنيه الإنجاز، وهو لا يسألُ عنها او يهتمّ بها وانّما يسأل ويهتمّ بالانجاز، فلقد جعل الله تعالى في الارض خليفةً ليُنجز لا لينشغلَ بهويّته، فقال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} حتى اعتراض الملائكة لم يكُن على هوّية الخليفة وانّما على إِنجازه، فجاء الردّ الالهي كذلك على الإنجاز وليس على الهويّة، ولقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) ما يؤكد هذا الفهم بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكم} والقلبُ هنا يرمُز الى النيّة التي تسبق الانجاز.

وإذا تتبّعنا آيات القرآن الكريم فسنجد انّها تثبّت هذا المعنى في كلّ مرّة يتحدّث فيها الله تعالى عن التقييم، فيشير الى الإنجاز دون أي شَيْءٍ آخر كما في قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.

هذا في الدّنيا، امّا في الآخرة، فكذلك يعتمد مبدأ الثّواب والعقاب على أساس الانجاز، كما في قوله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

ان التقييم على أساس الانجاز هو مبنى العقلاء والعكس هو الصّحيح، فانّ التقييم على أساس الهويّة هو طريقة المجانين، ولذلك لا تجد امَّةً متقدّمة قد أخذت بالهويّة كمعيار للتقييم ابداً، فالإنجاز يوحّد الامّة امّا الهويّة فتفرّقها، والانجاز سبب تقدّمها امّا الهويّة فتقهقر وتخلّف، والانجاز تعاون وتنسيق وتكامل، امّا الهويّة فتفرّقٌ وتفتُّتٌ وتمزّقٌ.

لقد كان الاسلام عظيماً يوم ان كان فيه جنباً الى جنب يتعاونون ليُنجِزون، علي القرشيّ وصُهيب الرّومي وسلمان الفارسي وبِلال الحبشي، الا انّهُ تقهقر الى الوراء يوم ان أصبحنا نسأل عن هويّة المواطن ولا نسأل عن انجازهِ، نقيّمهُ لهويّتهِ ولا نعير اهتماماً لإنجازهِ.

ماذا تنفعُني هويّة الأشياء والأشخاص اذا كان إنجازهم سيّئاً؟ ماذا تنفعني عمامة الرجل، عِقالهُ، ربطة عنقهِ، زيّهِ، انتمائه الديني او المذهبي او القومي اذا كان انجازهُ سيئاً؟ ماذا أستفيد من صلاتهِ، صومهِ، حجّه، عزائهِ وموكبهِ ومجلسهِ الحسيني اذا كان لا يُحسن تحقيق الإنجاز المطلوب؟ ماذا أستفيد من تاريخهِ النّضالي وايديولوجيّته التي تُبهر العقول وتأخذ بأَلباب النّاس اذا كان انجازهُ دونَ الصّفر؟!.

ماذا تنفعني اشتراكيّتهُ الثّوريّة اذا كان لصّاً؟ ما الذي استفيدهُ من عبقريّتهِ وانتمائهِ وخطابهِ وفلسفتهِ اذا كان فاسداً؟!.

انّ الامم والشعوب التي تنشغل بالهوية على حساب الإنجاز هي الامم المتخلّفة، امّا الامم التي لا تعتني الا بالإنجاز عندما تقيّم مسيرتها فهي الامم التي تتقدّم.

ففي قصّة يوسف عليه السلام لو انّ الملك، فرعون، انشغل بهويّة يوسف عندما فسّر له رؤياهُ دون كلّ المفسِّرين، لما منحهُ فرصةَ تسنّم أخطر موقع في الدّولة آنذاك ليحقّق المعجزة لمصر وينقذها من الفساد الذي استشرى في مؤسّسات الدّولة والمؤسّسة الدّينية على حدٍّ سواء.

انّهُ نظر الى انجازهِ عندما قيّمهُ فقرر وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب.

تقول القصة {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

كما انّ أبنة نبيّ الله شُعيب (ع) هي الاخرى لم تهتمّ بهويّة موسى (ع) عندما جاءتهُ على استحياءٍ لتنقلَ لهُ دعوةَ ابيها، او حتّى عندما اقترحت على ابيها ان يستأجره، انّما انتبهت الى انجازهِ عندما سقى لهما فأحسنت التّقييم فكانت ان احسنَت الاختيار.

تقول القصة {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ* فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.

كذلك في قصّة طالوت، فبينما اعتمد القوم معايير القبيلة والتوريث وغير ذلك، لرفض القائد الجديد، أكّد لهم نبيّهم ان معيار الاختيار عند الله تعالى غير ذلك، وانّما هي الصّفات المطلوبة للإنجاز المحدّد، والذي تمثّل بقيادتهم في معركة التّحرير من الطّاغوت الظّالم.

تقول القصة {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وعندما يقول رسول الله (ص) {خيرُ النّاسِ من نَّفعَ النَّاسَ} فهذا يعني ان الاسلام لا يهتم بالهويّة ابداً فهي شأنٌ خاصٌّ يتمتع به الانسان كيفما يَشَاءُ، ولا دخل لاحدٍ به، انّما الذي يعتمدهُ الاسلام لتقييم النّاس هو إنجازهم وانجازهم فقط.

وهذا ما يشير اليه امير المؤمنين (ع) كذلك في قوله {الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ! إنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُمْ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إلى غَايَتِهِ، وَاخْرُجُوا إلَى اللهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ، وَبَيَّنَ لكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ}.

سنظلّ متخلّفين نعاني من شتّى الأمراض والمشاكل وعلى مختلف الاصعدة، وسنظلّ نظلم بَعضنا البعض الاخر، وسنظلّ نضع الرّجل غير المناسب في المكان غير المناسب، لازلنا نقيّم النّاس والاشياء على أساس الخلفيّة والانتماء والهويّة، من دون ان نُعير للإنجاز ايّة قيمة تُذكر.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق