q

إن الأصل في العلاقات الإنسانية هو التعارف والتعاون، والاستثناء هو التباغض. لذا فأن "التعايش" بمعنى العيش المشترك بين بني البشر، يعد مفهوما قديما، ولد مع ولادة البشر أنفسهم؛ كونه ضرورة لا غنى عنها، إلا أن مصطلح "التعايش السلمي" هو من المصطلحات الحديثة، الذي تتباين فيه وجهات النظر إلى حد ما؛ لان ظهوره ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسات الخارجية للدول وما نتج عنها من صراعات ونزاعات، وبالتالي، وفي ظل الصراعات العالمية المستمرة، طرحت تلك الدول- في وقت ليس ببعيد- مفهوم "التعايش السلمي" بدلا عن مفهوم ما يمكن تسميته بـ"التعايش الحربي"

يعني التعايش في اللغة، الإشتراك في الحياة على الألفة والمودة، وهي على وزن تفاعل الذي يفيد وجود العلاقة المتبادلة بين الطرفين. وجاء في المعجم الوسيط: "عاش: عيشا وعيشة ومعاشا صار ذا حياة فهو عائش، أعاشه: جعله يعيش يقال أعاشه الله عيشة راضية، عايشه: عاش معه، عيشه: أعاشه، تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة ومنه التعايش السلمي "وسيراً على المعنى اللغوي تكون كلمة "السلمي" وصف مؤكد لطبيعة التعايش، وعلى فرض وجود نوع من التعايش غير السلمي يكون الوصف مقيداً يخرج به نوع التعايش غير السلمي.

وفي الاصطلاح ثمّة من يعّرِف مفهوم التعايش السلمي "بأنّه سياسة خارجية تنتهجها الدولة المحبة للسلام وتستند إلى فلسفة مقتضاها نبذ الحرب بصفتها وسيلة لفض المنازعات وتعاون الدولة مع غيرها من الدول لاستغلال الإمكانيات المادية والطاقات الروحية استغلالاً يكفل تحقيق أقصى قدر ممكن من الرفاهية للبشر بغض النظر عن النظم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية".

ويرى آخر: "أن مصطلح التعايش يعني قيام تعاون بين دول العالم على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والتجارية، كما يعني اتفاق الطرفين على تنظيم وسائل العيش بينهما، وفق قاعدة يحددانها مع تمهيد السبل المؤدية إليها"

ولكن هناك من يرى أن التعايش السلمي لا يقوم فقط بين الدول وإنما بين الشعوب أيضًا، مع بعضها البعض، وبين ابناء الشعب الواحد والمدينة الواحدة وهكذا. فالتعايش هو "مجتمعات متكاملة يعيش فيها الناس من مختلف الأعراق والأجناس والأديان منسجمين مع بعضهم البعض، ولا يتطلب أدنى فكرة للتعايش سوى أن يعيش أعضاء هذه الجماعات معا دون أن يقتل أحدهم الآخر". وهنا تكمن الأهمية والضرورة معًا، إذ إن محرك السلم كمحرك الحرب تمامًا ليس علاقة دولة بدولة، وإنما بصورة أعمق علاقة الشعوب والافراد بعضها ببعض.

وهناك من ذهب إلى ابعد من ذلك؛ وطرح مفهوم التعايش السلمي بين الاجيال الحاضرة واجيال المستقبل، بمعنى أن على الاجيال الحاضرة أن تعيش وتتنعم بالحياة دون الاضرار بحياة من سيعيشون بعدها. وهذا ما أكدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) حينما حثت على ضرورة تعايش الأجيال الحاضرة مع أجيال المستقبل في ظل أجواء يسودها السلام والأمان واحترام حقوق الإنسان والحقوق الأساسية وترى أن على الأجيال الحاضرة تجنيب أجيال المستقبل المعاناة الناجمة من الحروب من خلال الحيلولة دون تعرضهم للأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة ووضع الصيغ المناسبة التي تحد من استخدام الأسلحة ضد المبادئ الإنسانية.

ومن حسن حال المسلمين، أن هناك الكثير من الشواهد التي تدل على أنّ الإسلام هو دين التعايش السلمي بين الشعوب، وهو الذي يحث على حفظ كرامة الإنسان، وأن يكرم أبناء الإنسانية بعضهم بعضاً. قال رسول الله (ص): "الناس بنو آدم، وآدم من تراب". ويقول محمد (ص): "لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى". وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام، ديناً ومبادئ، له سياسته الداخلية والخارجية التي يعيش في ظلالها الناس جميعاً، وهذه السياسة مبنية على الحقوق والحرية والعدالة والتسامح.

يقول ول ديورانت: "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين.. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم.. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين.. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والإسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين".

وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".

ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ".

نخلص مما تقدم: إن التعايش السلمي في ضوء القواعد الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، وفي ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها ومبادئها هو ضرورة بشرية، وسنة نبوية وعبادة ربانية.

وأن البشرية، مجتمعات وافردا، وسواء كانوا مختلفين في اللون أو العرق، أو الدين والمذهب، أو الحزب والانتماء السياسي لا يمكن أن تستقر ولا يمكن أن تتقدم ما لم يسعون إلى التعايش السلمي الذي يبدأ من إيمان الإنسان الفرد به، والثقافة المجتمعية بأهميته وينتهي بحسن العلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل.

وبالتالي، نحن بحاجة إلى الاتي:

1- حثُّ أتباع مختلف المكونات والمذاهب الإسلامية على التواصل العلمي المؤسـس لمناخ التعايش بين المسلمين.

2- ضرورة التواصل مع الحكومات الإسلامية بغية ترغيبها في تبني مشروع التعايش العابر لكلّ الاختلافات العقدية والفكرية وغيرها، وتجريم حاضـني ومروجـي العنف والكراهية.

3- ضرورة تشجيع البرامج واللقاءات والفعاليات ذات النفس الوحدوي بغية تعزيز كلمة المسلمين ورص صفوفهم.

4- التركيز على أهمية تبني وسائل الإعلام (بأنواعها وأشكالها المتعـددة) للخطـاب المعتدل، وحظر نشر أو بث خطاب التخوين والتكفير والتبديع.

...................................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق