q

بفضل العلم وصل بنو الإنسان الى ما وصلوا إليه، ولكن هنالك طرف آخر غير العلم له فضل يكاد يكون مساويا لما قدمه العلم للإنسان، ذلك هو (السؤال)، نعم فالسؤال هو الذي يحوّل العلم من (قفص العقل الفردي)، الى (فضاء العقل الجمعي)، ويمكننا أن نتصور عدم فائدة العلم اذا بقيَ حبيس الرأس، فمن يا تُرى يحث العلم على الإنعتاق نحو حرية المعرفة؟، ومن يحفّز العلم على كسر قضبان الحبس ومن ثم الخروج ملايين العقول التي تحوّله من المعنى الفكري المجرد، الى ناتج مجسد مادي وملموس.

وقبل الدخول في عمق موضوعنا هذا، لنتعرف عن العلم وماذا يفسره المختصون، إن العلم كما يقول أصحاب الشأن، هو كل نوع من العلوم والمعارف والتطبيقات. وهو مجموع مسائل وأصول كليّة تدور حول موضوع معين أو ظاهرة محددة وتعالج بمنهج معين، وينتهي إلى النظريات والقوانين. ويعرَّف العلم أيضًا بأنه "الاعتقاد الجازم المطابق للواقع وحصول صورة الشيء في العقل". ونقول أن "العلم هو مبدأ المعرفة، وعكسه الجَهـْلُ" أو "إدراك الشيءِ على ما هو عليه إدراكًا جازمًا" يشمل هذا المصطلح، في استعماله العام أو التاريخي، مجالات متنوعة للمعرفة، ذات مناهج مختلفة مثل الدين (علوم الدين)، والفلك (علم الفلك)، والنحو (علم النحو)......الخ.

وبتعريف أكثر تحديدًا، العلم هو منظومة من المعارف المتناسقة التي يعتمد في تحصيلها على المنهج العلمي دون سواه، أو مجموعة المفاهيم المترابطة التي نبحث عنها ونتوصل إليها بواسطة هذه الطريقة. عبر التاريخ انفصل مفهوم العِلم تدريجيا عن مفهوم الفلسفة، التي تعتمد أساسا على التفكير والتأمل والتدبر في الكون والوجود عن طريق العقل، ليتميز في منهجه باتخاذ الملاحظة والتجربة والقياسات الكمية والبراهين الرياضية وسيلة لدراسة الطبيعة، وصياغة فرضيات وتأسيس قوانين ونظريات لوصفها.

ويرى العلماء المعنيون، أن نشأة العلم تمتد عميقا في بطون التاريخ، وأنه كما الأشياء والمجالات الأخرى القابلة للنمو، فقد بدأ صغيرا ومجهولا، لينمو ويتطور مع الزمن وباختلاف العصور، ولكن غالبا ما يتفق الجميع، على أن الإنسانية تشبثت بالعلم مثل غريق في وسط البحر، وليس لها من منقذ سواه، وهذا ما حدث فعلا، لذلك يتطابق ظهور العلم مع نشأة الإنسانية، وقد شهد خلال تاريخه سلسلة من الثورات والتطورات خلال العديد من الحقبات، لعل أبرزها تلك التي تلت الحرب العالمية الثانية، مما جعل العلم ينقسم لعدة فروع أو علوم.

أربعة يؤجرون بسبب السؤال

لأن السؤال هو الذي ينشّط الذاكرة العلمية، ويحفز العالِم على البوح المفيد بما يكتنزه من علوم، من هنا يعد السؤال مفيد الى أقصى الحدود، فهو خير من الصمت، أو التعامل ببلادة مع العقول التي تكتنز المعلومات، وتحتاج الى من يثيرها ويحركها ويحفزها، كي تقدم ما تمتلك من كنوز العلم الى الآخرين للإستفادة منها في تطوير الحياة، وإدامة التجديد اللازم لها.

ونظرا لهذه الأهمية التي يتميز بها السؤال، فقد عدَّهُ الرسول الأكرم (ص) مفتاحا لخزائن العلم، كما ورد ذلك في قوله (ص) الذي تضمَّنه كتاب تحف العقول: (العلم خزائن ومفاتيحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه تؤجر - به- أربعة، السائل والمتكلم والمستمع والمحب لهم).

وبهذا فإن السؤال، يعود بالأجر على أربعة أشخاص هم، مَن يطرح السؤال كي يحفّز العالِم على إظهار علمه الى العلن، ويؤجَر أيضا العالِم الذي لا يأخذه التعالي أو الأنانية، فيُحجم عن إظهار علمه، بل ما أن يتلقّى السؤال حتى يبادر بالإجابة العلمية التي تضع المعلومات في خدمة الناس، فيحصل عليها المهتم والمتخصص الذي يستطيع أن يحيلها الى من صيغتها العلمية الفكرية المجردة، الى منتج ملموس تستفيد من البشرية جمعاء.

أما الشخص الثالث الذي يؤجَر من السؤال، فهو المستمع الذي يتلقّف المعلومات بشغف كبير من العالِم، كونه يحتاجها لتطوير حياته، من خلال تطوير معلوماته وسلوكه ومنتجاته التي ترفع مستوى حياة الانسان فردا كان أو مجتمعا، وهذا الشخص سوف يسعى للإستفادة من الإجابة العلمية، كذلك سوف يسعى الى توصيلها الى الآخرين ونشرها، عبر وسائل التدوين وما شابه، فضلا عن الفائدة الذاتية التي يحصل عليها، وهذا هو السبب الأساس الذي يكمن وراء تطوّر حياة الإنسانية عبر العصور والأزمان.

الشخص الرابع الذي يستفيد من السؤال، هو الذي يحب هؤلاء الثلاثة الذين يجالسهم ويستمع إليهم نتيجة محبته لهم، فضلا عن تقديمه الدعم لهم، فمن يحب العلم، سوف يحب العالم، ويحب من يطرح عليه سؤالا محفزّا له ومحركا لمعلوماته، ومستفزا لها، كذلك سوف يدعم ويشجع الاستماع للعلماء كونهم يقودون المجتمع والبشرية كلها الى مستوى علمي أفضل، وبالتالي نقل الانسان من مستوى أقل الى مستوى أكبر.

وهكذا نلاحظ أن الأربعة الذين يؤجرون من السؤال، جميعهم له دوره في الحض على إفشاء العلم ونشره وتوصيله الى ابعد مكان ممكن، والى أوسع رقعة مكانية يسكنها أناس يحتاجون للعلم، من اجل تطوير ذواتهم ومجتمعاتهم ودولهم، وبالنتيجة يكون السؤال فعلا، هو المفتاح الأول الذي فتح أبواب ونوافذ خزائن العلم، بعد أن تقدم الى أهل العلم طالبا منهم الإفصاح عن المكنونات العلمية التي يختزنونها في رؤوسهم وعقولهم.

مغبون من تساوى يوماه

بعد معرفة أهمية السؤال، وفهم مضمون وصية أو موعظة الرسول الكريم (ص)، والأجر الذي يشمل الأربعة (صاحب السؤال، والمسؤول أو العالِم، والمستمع، والمحب لهم)، لابد على من يهمهم الأمر، من شخصيات، وأصحاب قرار، ومنظمات ومؤسسات وجمعيات خيرية ثقافية او سواها، أن يبحثوا عن الصيغ والطرائق المناسبة التي تحث على نشر ثقافة السؤال بين عموم البشر، بدءً من الأفراد والمجتمعات الأكثر حاجة للعلم.

أما الكيفية التي يتم فيها تحقيق هذا الهدف، فهناك وسائل كثيرة يمكن من خلالها حض الناس وتشجيعهم على طرح الأسئلة في الندوات والصفوف والاستفادة من وسائل الإعلام كافة في هذا المجال، والسعي لجعل هذه الثقافة تتصدر اهتمام الجميع، وتوضيح الفوائد الجمة التي تعود على من يسأل العلماء وأصحاب الكنوز المعرفية والعلمية، من اجل توظيف العلم لتجديد حياة الفرد والجماعة على حد سواء.

كذلك من الأفضل إيجاد سبل تدفع الناس الى إيمانهم بحق السؤال، والقضاء على حالة التردد في هذا المجال، إذ هناك بعض الأشخاص يتهيبون من طرح السؤال لأسباب عديدة، قد تكون شخصية تتعلق بالتربية او التوجهات، ولكن في جميع الأحوال، لابد أن نتذكر على نحو دائم، تلك الفوائد الكبيرة التي تنتج عن طرح سؤال على العقل المعني، وليس طرح السؤال لأغراض أخرى، منها تهدف الى إحراج الآخر، او الانتقاص منه وما شابه.

لذا ينبغي أن يكون السؤال ذا مضمون علمي، يعود بالفائدة على الجميع، حتى تتحقق وصية النبي الأكرم (ص)، بخصوص الأجر الذي يحصل عليه الأربعة كما مر ذكره، ويبقى الهدف من نشر ثقافة السؤال، هو نشر العلم، والهدف الأسمى من وراء ذلك، هو البناء الأفضل والأجمل والأكثر سلامة وتطورا للفضاء الذي ينشط ويتحرك فيه الانسان، فمن دون العلم والسؤال، سوف يبقى الفرد والجماعة يراوحون في أمكنتهم، وهنا سوف يصح عليهم قول الامام علي (ع) (مغبون من تساوى يوماه).

اضف تعليق