q

لايوجد شيء يمكن له أن يوتر العلاقة بين الحاكم والمحكوم أكثر من انشغال الأول بملذاته وأطماعه ومصالحه الشخصية التي تضمن بقاءه متنعماً في السلطة على حساب معاناة الناس، لذلك نجد أن أكثر حالات الثورة على هذا الصنف من الحكام إنما حدثت للأسباب التي ذُكرت خصوصاً مع تكريس الحاكم لطبقية مقيتة تضعه وبطانته والمتملقين له تزلفاً في حالة من بحبوحة العيش ورفاهيته بينما نجد المخالفين أو لنقل المتحفظين على سلوكيات الحاكم وزبانيته يعيشون في فقر مدقع وعوز، حيث يتعمد حكام الجور ابقاء المعارضين في هذه الوضعية لضمان السيطرة عليهم وجعلهم خاضعين له ظناً منهم بأن سياسة التجويع والتدجين ناجحة في إخماد الصوت الثوري المعارض الذي يمكن أن ينطلق من هنا وهناك لتأليب العامة ضدهم وضد سياساتهم.

وقد واجه المجتمع الإسلامي هذا النوع من الطبقية والتمييز بين المسلمين وتقسيمهم بحسب القوميات والأعراق في عهد عمر الذي فرق في العطاء بين العرب وبين غيرهم، حتى تطورت الأمور في عهد عثمان الذي كرس هذه الطبقية وزاد عليها بأن جعل له بطانة وحاشية من أفراد عشيرته وقد لعبت بمقدرات المسلمين، لدرجة ان يستلم مروان ابن الحكم أموال خمس أفريقيا بينما يتولى أخوه غير الشقيق الوليد بن عقبة ولاية الكوفة وهو المعروف بميله للخمر واللهو، وحادثة تعطيل إقامة الحد عليه معروفة بعد أن ثبت أنه صلى بالناس وهو سكران وغيرها من المآخذ الكثيرة التي أخذها الناس عليه.

لقد كان للجانب الاقتصادي دوره في زمن عثمان حيث برز نمطان وقف الأول مع الحاكم لانتفاعه منه ومن عطاياه فساهم في تجميل صورته، بينما وقف النمط الثاني في جانب المعارضة رافضاً سياسات التمييز التي نبذها الإسلام المحمدي الأصيل وإذا به يرى من يحكم بصفة (خليفة) لنبي الإسلام يكرسها بأوضح الصور وبحالة من الغرور والخيلاء جعلته لايقيم وزناً لأحكام الشريعة، فالمهم عنده هو اتخاذ الاجراءات التي تديم زخم سلطويته دون أن يلتفت إلى أنها قد تطيح به مستقبلاً وتؤدي إلى هلاكه. وقد ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أهم وأشهر خطبه المعروفة بـ (الشقشقية) بقوله: "إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته"1.

والمتأمل في كلام أمير المؤمنين عليه السلام يلمس بوضوح الآلية التي حكم بها عثمان البلاد الإسلامية وكيف أن (بنو أبيه) تنعموا في فترة حكمه قبل أن يثور عليه المسلمون ويقتلوه بعد يأسهم من استماعه لهم ولمطالبهم بضرورة عدم تحكم من لعنهم الله وهم في صلب آبائهم بمقدرات الأمور.

إن أكبر مشكلة يمكن أن يقع فيها الحاكم الذي يواجه ظروف الثورة والعصيان هي مايعتقده من أنه وحاشيته على حق وأن الثائرين عليه هم من الغوغاء وأهل البدع وقد أبعدتهم الدنيا عن الدين وجادة الصواب لأنه (خليفة) ولايجوز الخروج عليه لأن في ذلك مفسدة وفتنة حسب مايرى هو أو ماتصوره له الحاشية. ويتضح ذلك في رسالته إلى الثائرين عليه وعلى سياساته حيث يقول: " أما بعد، فإنكم إنما بلغتم مابلغتم الاقتداء والإتباع فلاتلفتكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الإبتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن فإنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الكفر في العجمة فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا "2.

يؤكد عثمان في رسالته هذه على أن من يخرج عليه بصفته (خليفة المسلمين) إنما يخرج بدافع ومؤثر خارجي ومبتدع، وهذه الرؤية للمخالفين صارت قاعدة مطلقة بحيث ساد اعتقاد بأن الثوار خارجون عن آراء الجماعة بحيث تطابقت الرؤية مع رؤية الحاكم وبما أنهم ثاروا بدوافع خارجية وبدعية فأنهم يعتبرون خارجين عن الملة مهدوري الدم وبذلك يقترن الاجتهاد في الرأي بالخيانة.

لقد استندت طريقة عثمان في الحكم على نظرية الدين المنتصر للقبيلة وليس الدين الذي لايفرق بين أبيض وأسود ليشكل بآلية الدين/العشيرة ثنائية جعلت البلاد الإسلامية في حالة من الغليان والتوتر الدائم وهي ترى الانحرافات عن النهج المحمدي تمضي بوتيرة متسارعة.

هذه الانحرافات شهدها عثمان نفسه منذ الإغماضة الأخيرة لسيد المرسلين صلوات الله عليه وآله والنزاع الذي حصل في سقيفة بني ساعدة بين تيار يريد للخلافة أن تكون في رهط قريش وآخر يريدها في رهط الأنصار وفي قبيلة الخزرج بالتحديد، لدرجة أن سعد بن عبادة رفض موقف البعض في أن الحسم الأمثل لهذا الجدل هو أمير من هذا الفريق وأمير من ذاك، وظل متشدداً في رأيه وأن الخلافة يجب أن تكون في جماعة الأنصار وحدهم دون غيرهم، لتجري سجالات كلامية وصلت حد الغلظة بينه وبين عمر الذي رفض حتى قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله عندما أراد أن يكتب كتاباً للمؤمنين لن يضلوا بعده لو تمسكوا به في الحادثة المعروفة، وشاهد عثمان كيف أن النزاع القبلي بين الأوس والخزرج عندما ثارت ثائرة الأوس عند علمهم نية الخزرج أخذ الخلافة وجعلها لسعد بن عبادة وهي النقطة التي استغلها عمر لجعل الخزرج يعمدون لمبايعة أبي بكر في نهاية المطاف في جو ملغوم بالإرادات السياسية والقبلية والطموحات الشخصية، أما الدين وقيمه فكان آخر مايتم التفكير به إن كان هناك تفكير فيه أصلاً.

كل هذه الأحداث التي عايش عثمان تفاصيلها جعلته -حين صار الأمر له بعد الشورى الصورية التي أنشأها عمر- يعمد إلى تأصيل مبدأ (سلطوية الخلافة) التي صارت منصباً سياسياً نما في أيام أبي بكر وترعرع في عهد عمر ليعطي ثماره في الفترة التي حكم فيها فصارت مرتعاً لبني أمية ترتع فيه مطبقة قول أبي سفيان (تلاقفوها) وقد فعلوا ما أراده شيخهم مصادرين كل القيم والمثل، لذلك لم تستمد تجربة الثلاثة الأوائل بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله على إرادة الناس أو الالتزام بوصية نبيهم بل ارتدت قميصاً عشائرياً عنصرياً بالياً سرعان ماتعرى فيه الدين الحنيف.

وبهذه الإرادة القبلية وجد عثمان نفسه حاكماً على سيرة شيخيه اللذين اجتهدا في حياكة هذا القميص متوهمين بأنه هدية الله لهم وهو ماتجلى بوضوح في جواب عثمان للثائرين المطالبين بخلعه:

"والله لأن أُقدّم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع قميصاً قمّصنيه الله"3، وهو بهذا الجواب يؤكد أن وجوده في الحكم أمر إلهي لاتجوز معه الثورة والمطالبة بتغييره وخلعه وليس للناس منة على الحاكم الذي ولج الحكم بشورى الأهواء والأمزجة، غير أن رياح الأحداث جاءت بما لاتشتهي سفنه حين وصل الأمر مع الثائرين إلى طريق مسدود وحد لاينفع معه الحوار فوثبوا عليه وقتلوه ليكون مقتله فاتحة خير لتسلط الأمويين المنادين بـ (مظلومية خليفتهم) وبعدها تطرح الدولة الأموية نفسها شكلاً مزيفاً من أشكال الدفاع عن القرآن والسنة النبوية حتى وإن كان الحاكم متهتكاً سكيراً فذلك لايهم طالما أنه يسير بسيرة الشيخين فليفعل مايشاء حتى وإن أحدث وابتدع.

وفي مقتل عثمان والتداعيات التي أعقبته وعصفت بالمسلمين، يقول أدونيس: " وقد أكد مقتل عثمان الوحدة العضوية بين الدين والسياسة، بخاصة، وبين السياسة والثقافة، بعامة، وانطلاقاً من هذه الوحدة انقسم المسلمون، ولم يكن انقسامهم سياسياً وفكرياً وحسب انما كان انقساماً اجتماعياً. كان المسحوقون أصحاب المصلحة في تغيير النظام الجائر بنظام إسلامي عادل يقفون في الجانب الذي يرون أنه جدير بإقامة هذا النظام وهو جانب علي والإتجاه الذي يمثله، وكانت الفئات الأخرى ذات المواقع الموروثة التي توفر لها السيادة تقف في الجانب الذي ترى أنه يدعم هذه المواقع وهو جانب معاوية "4.

وهكذا فتحت حادثة مقتل عثمان الباب لتناقضات المواقف وصدام المصالح، فقد ركبت عائشة جملاً وسارت بجيش لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام مطالبة بدم عثمان وهي التي اصطدمت معه وخالفته في أواخر أيامه وجرى ماجرى بينهما من سجالات ولعن وشتائم حتى أنها خرجت من عنده ذات مرة قائلة: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!.

.................................
1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة:31
2- تأريخ الطبري: 4 / 407-411
3- نفس المصدر السابق: 4 / 371-372
4- أدونيس، الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب: 1 / 170
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق