q

حادث الاعتداء يستنهض الاحقاد العنصرية

لم تتضح بعد ملابسات ودوافع واهداف الهجوم المروع على مبنى هيئة مدنية للرعاية الاجتماعية في مدينة سان بيرناردينو بولاية كاليفورنيا، استخدمت فيه اسلحة من الطراز العسكري، وفق المعلومات الرسمية. الثابت انها ضخت دماء جديدة في الخطاب العنصري المتجذر اصلا في المجتمع الاميركي، وجدد عدوانيته منذ هجمات نيويورك عام 2001؛ في الماضي القريب ضد السود من اصول افريقية، ومن ثم ضد اللاجئين والناجين من الحروب الاميركية في اميركا اللاتينية، والآن ادمج العرب والمسلمون واقرانهم بالارهاب في احدث واشمل حملة اقصاء وتشويه.

بعض المسؤولين الرسميين، والتشديد على كلمة "بعض،" اعربوا عن استيائهم ورفضهم للتصريحات العنصرية المتسارعة على لسان عدد من المرشحين للانتخابات الرئاسية؛ وحذر الرئيس اوباما ومسؤوليه في الاجهزة القضائية والأمنية المعنيين من التمادي في الخطاب المناهض للمسلمين والديانة الاسلامية ونزعات التعميم الضارة.

بالمقابل، تصدر ابرز مرشحي الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، كافة المواقع والوسائل الاعلامية بمطالبته الحكومة الاميركية "فرض حظر فوري على سفر وهجرة المسلمين للأراضي الاميركية،" فور حادث الهجوم، ومكررا مطلبه السابق بإعداد قوائم وبيانات تخص المسلمين المقيمين في اميركا تمهيدا لاحتجازهم وترحيلهم، اسوة بمطالبته الدائمة بالمثل ضد المهاجرين واللاجئين القادمين من دول اميركا اللاتينية.

مسؤولو الأمن المحليين، في المدن والارياف الاميركية المتعددة، حثوا مواطنيهم على التسلح واشهار الاسلحة الفردية في الاماكن العامة، مما ادى الى ارتفاع حاد في مبيعات الاسلحة الفردية في عموم الولايات الاميركية.

فيما يخص تصريحات ترمب وما ناله من تحقير واشهار احجم منافسوه، في السباق الرئاسي عن الحزب الجمهوري، عن المطالبة بإقصائه عن الحملة الانتخابية، واكتفوا ببضع تصريحات بعضها عالي النبرة والحدة، مثل ليندسي غراهام الذي طالبه بالذهاب الى الجحيم، والمماطلة في اتخاذ مواقف اشد وضوحا ضد التعبيرات العنصرية.

لعل الظاهرة الأهم الناجمة مباشرة عن لغة التحشيد ورفض الآخر انتعاش اعداد المواطنين الاميركيين المؤيدين "بقوة" لخطاب ترمب ومقترحاته بإقصاء المسلمين. اذ اشارت استطلاعات متعددة للرأي ثبات نسبة مؤيديه بين صفوف الحزب الجمهوري، بل ارتفعت الى نسبة 37%. في أحدث استطلاع اجري في ولاية كاليفورنيا مطلع الاسبوع، اعربت الاغلبية عن تأييدها ترمب بنسبة 52% مقابل 48% يعارضونه. ترمب ينتشي ويزهو بين صفوف الناخبين في طول وعرض الولايات المتحدة، ويستنهض الكامن من مشاعر الحقد والكراهية ويفرضها على الخطاب السياسي العام.

العنصر اللافت والهام في الاستطلاع المذكور ان ولاية كاليفورنيا تعد من ابرز الولايات اعتدالا وسوية، وعادة تعطي اصواتها لمرشح الحزب الديموقراطي. وربما اسهم مكان الحادثة باحدى مدنها في تأجيج مشاعر العامة. عند احتساب مشاعر الريبة والخوف بين صفوف الاقليات، ترتفع نسبة تأييد ترمب الى 59% مقابل 43% يعتبرون الديانة الاسلامية تحرض على العنف.

اشار استبيان اجرته وكالة (أ ب) للانباء مؤخرا الى ارتفاع مشاعر الكراهية ضد عموم المهاجرين من منطقة الشرق الاوسط، وفق التصنيفات المعتمدة، وذلك قبل تصريحات ترمب. اذ اعرب نحو 54% من الاميركيين المستطلعة آراؤهم عن ضيق ذرعهم من سياسة الحكومة الاميركية "استقبال اعداد متزايدة من مواطني منطقة ساخنة." النسبة ارتفعت الى نحو70% بين صفوف مناصري الحزب الجمهوري؛ ونحو 30% من مؤيدي الحزب الديموقراطي. الأمر الذي استدعى النائب العام الاميركي لوريتا لينش الى التحذير من "ارتفاع مقلق جدا في الخطاب المعادي للمسلمين."

وقصدت لينش تهدئة وطمأنة "الجالية الاسلامية" في حفل عشاء استضافه بعض الوجوه الاسلامية البارزة مشددة على ان "رسالتنا ليست موجهة للجالية الاسلامية فحسب، بل لكافة صفوف الشعب الاميركي بأنه لا ينبغي علينا الاستسلام والاذعان لمشاعر الفزع والذعر" الناجمة عن اعمال العنف. وطمأنت الحضور بثبات التزام الحكومة الاميركية بحقوق الافراد ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم الدينية، كما نصت عليه مادة التعديل الاولى من الدستور الاميركي، وان ما يجري من ممارسات وتصريحات اقصائية "لا يمثل القيم الاميركية."

ترمب يحرض على الفتنة

المفردات في خطاب ترمب تثير الاضطرابات وتمهد للفتنة والانقسام، وهو ما يجمع عليه معظم المراقبين. اما ما يدور في خلد المرشح ترمب فان تصريحاته ربما كانت مبررة لخدمة حملته الانتخابية؛ ووجد احد تعبيراته المؤيدة في بروز اليمين المتشدد في فرنسا تحديدا تتويجا لمناخ التحشيد ضد المهاجرين والاسلاميين.

ترمب دافع بجرأة قاربت الوقاحة عن افكاره الاقصائية بالاستناد الى اجراءات "مماثلة" اقدم عليها عدد من الرؤساء الاميركيين ابان احتدام الصراعات الدولية، وعقد مقارنة بين موقفه وموقف الرئيس فرانكلين روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية والذي فتح معسكرات الاعتقال للمواطنين الاميركيين من اصول يابانية وآخرين من اصول المانية وايطالية.

تجدر الاشارة عند هذا المنعطف الى اجراء مماثل "اضطر" الرئيس الاسبق جيمي كارتر لاتخاذه عقب احتجاز الرهائن من الديبلوماسيين الاميركيين في طهران، منع بموجبه دخول اي فرد من اصول ايرانية للولايات المتحدة الا اذا ثبت معارضته لنظام الخميني آنذاك او لضرورات انسانية قصوى بهدف العلاج الطبي.

تظاهر ترمب بالتراجع بعض الشيء عن سوء تصريحاته بالقول لشبكة (سي ان ان) للتلفزة ان سياسته المقترحة هي "لمعالجة اوضاع مؤقتة تستمر لحين توصل ممثلي البلاد لحل على ما نحن عليه من جحيم،" محذرا ان اخفاق التوصل لحلول مُرضية سيكون ثمنه "مزيد من الهجمات المماثلة لأبراج التجارة العالمية (2001) – عدد كبير من الهجمات ربما تتفوق بشاعتها على هول برج التجارة العالمي."

من الضروري الاشارة الى ان نسبة شعبية ترمب شهدت تراجعا بعض الشيء في الآونة الاخيرة، وما قبل حادثة كاليفورنيا، وشهد ارتفاعا مضطردا في نسبة مؤيديه منذئذ. واستطاع استقطاب كافة الوسائل الاعلامية، الرئيسة والهامشية على السواء، مجانا وفرت له فرصة لمخاطبة قطاعات واسعة من مؤيديه ومريديه والذين يميلون بالفطرة لانتهاج وسائل وردود فعل متشددة.

انصافا للحزب الجمهوري، برزت بعض الاصوات المعارضة لتوجهات ترمب، أهمها جاء في طيات النشرة الاسبوعية "ذي ناشيونال ريفيو،" التي سخرت من فكرة ان "ترمب هو احد فرسان الدفاع عن الحريات المدنية (تستحق) الاستهزاء والضحك،" وتذكير قرائها ومؤيديها بتصريحات ترمب التي وعد فيها "باسدال الستار عن بعض اجزاء شبكة الانترنت.." وما يشكله من تقويض لحرية الفكر والتعبير.

استطاع ترمب بخطابه ومفرداته المباشرة البعيدة عن الكياسة الديبلوماسية استغلال مخاوف العامة وخشية السياسيين من تفاقم فشل سياسة الرئيس اوباما، بعضهم من الحزب الديموقراطي، والنفخ باتجاه ارسال مزيد من القوات العسكرية الاميركية للقتال مباشرة في سوريا. اذ اشار استطلاع حديث لشبكة (سي ان ان) بأن 53% من الاميركيين يؤيدون الانخراط العسكري في سوريا، بينما اوضح الاستطلاع ان نحو 68% من الاميركيين يعارضون سياسة الرئيس اوباما في مكافحة الارهاب واعتبروها "ليست عدوانية بما فيه الكفاية."

ترمب في نظر المعجبين والمؤيدين والصامتين يعبر عن طموحاتهم ومشاعرهم لسياسة الولايات المتحدة وينفرد بين كافة اقرانه ومنافسيه ببلورة معالم السياسة المرجوة. فضلا عن ذلك، فانه لا يكف عن استغلال الاحقاد الدفينة بأن القتال والحروب يجب ان تخاض بعيدا عن الاراضي الاميركية. الاميركيون بشكل عام يضعون ثقتهم بالسياسة التي يروج لها ترمب في هذا الصدد، ولا يضيرهم تكثيف الجهود والموارد العسكرية لخوض القتال في سوريا والعراق شريطة ان لا يطال الشارع الاميركي نصيب منها.

تقنين السلاح الفردي مسألة خلافية

استعاد الصراع ذروته للحد من انتشار الاسلحة بين القوى الليبرالية والاجتماعية المهمشة، من جهة، والشركات والمصالح الاقتصادية الكبرى، لا سيما صناعة الاسلحة، من جهة اخرى، متدثرة بعباءة الدستور ومادة تعديله الثانية التي تتيح للأفراد اقتناء السلاح الفردي للدفاع عن النفس.

لجأت القوى الاجتماعية الصاعدة والمعادية للحروب الاميركية في فيتنام، ابان عقد الستينيات من القرن المنصرم، الى اقتناء السلاح "المسموح به دستوريا" للدفاع عن النفس وضد تغول الاجهزة الأمنية والشرطة تحديدا التي لا تزال تضطهد وتقتحم الاحياء الشعبية والمهمشة اقتصاديا، بحجة الأمن.

استشرى القلق آنذاك في اعماق المؤسسة الاميركية الحاكمة، افقيا وعموديا، لإمكانية استخدام السلاح "المرخص" لأجل تعزيز مواقع القوى التقدمية بشكل اساسي، وخشيتها من تحييد غلو وسطوة الاجهزة الأمنية الرسمية، وشنت حملات قتل واغتيالات منظمة ضد الشخصيات والرموز الواعدة، أبرزها مالكولم اكس والقس مارتن لوثر كينغ. من لم تستطع قتله في وضح النهار لفقت له التهم واودعته المعتقلات ليجري اغتياله هناك بعيدا عن انظار الاعلام، كما حدث مع الشاب فرد هامبتون، احد زعماء منظمة "الفهود السود." وفشلت جهودها في الابقاء على الناشطة السوداء وعضو الحزب الشيوعي الاميركي، انجيلا ديفيس، خلف القضبان.

الصراع في اللحظة الراهنة يدور بين صفوف ذات القوى المتنفذة في المؤسسة الحاكمة، والتي تجهد لإبعاد مصطلح "الارهاب" عن اي عمل معادي مصدره عنصر "ابيض." ليس مستساغا في الحقبة الزمنية الراهنة استخدام تعابير اليمين واليسار ضمن تيارات وتوجهات المؤسسة الحاكمة، وهي مسألة بحاجة لدراسة شاملة بمفردها، لكننا نضعها في سياق اصطفافات راهنة بين مصالح متشابهة تتصارع فيما بينها للفوز بحصة الاسد، ماديا وشعبيا.

في ذلك الزمن الواعد من النضال الاجتماعي ابان الحرب الفيتنامية، اعدت الاجهزة الامنية، لا سيما مكتب التحقيقات الفيدرالي، قوائم بالمعارضين السياسيين وشددت الرقابة عليهم وتتبعت تحركاتهم ونشاطاتهم بدقة وكثافة، ووفرت الفرص لاغتيال البعض منهم (مالكولم اكس ومارتن لوثر كينغ.) الثابت ان المؤسسة الحالية لم ترعوي من تلك التجارب المؤلمة في التاريخ القريب، وما افرزته من تشققات اجتماعية واقتصادية واسعة، وعمقت الهوة بين شريحة الميسورين والطبقة الوسطى المتحالفة مع شريحة المهمشين.

يبرز راهنا الخطاب الاقصائي وتتعالى المطالب الرسمية "بتحديث" قوائم وبيانات الافراد والشخصيات الخاضعين للمراقبة والمدرجين على لائحة "الممنوعين من السفر" بالطائرة، داخليا وخارجيا.

احدث تجليات عودة الخطاب الاقصائي جاءت على لسان الرئيس اوباما نفسه في خطابه الموجه للأمة مطلع الاسبوع مطالبا السلطة التشريعية، بمجلسيها في الكونغرس، استصدار قرار جديد يحرم كل من هو مدرج على لائحة الممنوعين من السفر من شراء الاسلحة الفردية. التدقيق فيما هو متوفر من معلومات بالأسماء المدرجة على القائمة التي تزادا طولا وكثافة، منذ الشروع بها في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، تثير السخرية والغضب في آن واحد. بعض ممن ادرجت اسماؤهم كانوا اعضاء في مجلس الشيوخ الاميركي ومن معارضي سياسات الرئيس بوش، مثل السيناتور ادوارد كنيدي. ومن باب السخرية ايضا ضمت القائمة اطفالا رضع لم يصلب عودها ولا تتعدى اعمارهم بضعة أشهر.

الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون ايضا احتفظ بقائمة طويلة لخصومه السياسيين والاعلاميين وقام بمعاقبتهم باقصائهم عن نشاطات البيت الابيض ومنها مؤتمراته الصحافية.

مكتب التحقيقات الفيدرالي هو الهيئة الرسمية المعنية بإجراءات التحقق من سوية صاحب الطلب واهليته لاقتناء السلاح. وسجل الجهاز ازديادا هائل على طلبات اقتناء السلاح فاقت المليونين لشهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وحده، وسجل في يوم 27 من الشهر نفسه 185،345 طلبا بالتصريح لليوم عينه فقط، بلغ معدل قطعتي سلاح بيعت للاميركيين كل ثانية، والذي اعتبر اعلى مستوى في تاريخ سجلات الجهاز منذ انشائه، تكفي لتجهيز واعداد جيش ضخم القوة.

ازدياد الطلب رافقه ايضا ارتفاع معدلات الانتساب الى دورات تدريبية على السلاح، مما يشير الى انضمام افراد لأول مرة لفئة المسلحين؛ عززه ايضا تصريحات بعض رجالات الأمن المحلي الداعية لحمل المواطنين سلاحهم في العلن "ورجائهم فعل ذلك" في أقرب فرصة.

محصلة الأمر تفيد بأن سعي الرئيس اوباما استغلال حادثة هجوم كاليفورنيا للمطالبة بفرض مزيد من الاجراءات والقيود وقع على آذان صماء.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق