q

طالما يُثار السؤال الكبير أمامنا، لدى وقوع اعتداء ارهابي جديد يستهدف الأقليات الشيعية في أماكن مختلفة من العالم. لماذا يكون الشيعة في باكستان – مثلاً- هدفاً سهلاً للجماعات التكفيرية الارهابية لأن يوغلوا في دمائهم ويستبيحوا حرماتهم دون رادع؟، وهذا ما نلاحظه حتى على الساحة العراقية، حيث لاقى الشيعة في محافظة نينوى ومحافظة صلاح الدين، طيلة السنوات الماضية، الأمرّين؛ التمييز الطائفي من الدوائر الرسمية، ومن الهجمات بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة.

يخال المتابع لأمر الاحداث الدامية التي يواجهها الشيعة هنا وهناك، أنهم أشبهة بـ "الحلقة الأضعف" في ميدان الصراع السياسي او الصراع الطائفي الذي تدور رحاها في مناطقهم. بينما نجد في الوقت ذاته، دلائل قوة في الجانب الشيعي، سواء على الصعيد السياسي او على الصعيد الفكري والثقافي، مما يفترض ان يجعلهم في موقف يكونوا فيه رقماً مهماً بالمعادلة، لا ضحايا بالمجان.

عوامل بناء لا "حلقة ضعيفة"

لمن يسلط الضوء على خلفية الاحداث الدامية التي يسقط فيها الشيعة بالمئات بين شهيد وجريح، يلحظ توجهان يزيدان في هشاشة الموقف الشيعي ويضعانه في فوهة المدفع بشكل أو بآخر؛ أحدهما يغلب الجانب السياسي ويطبع أي خلاف بالقضايا السياسية، بينما الآخر؛ يغلّب الطابع الطائفي والعقائدي، على أنه أساس المشكلة، "إن حُلت حُل ما سوها..."!.

فيما يتعلق بالاتجاه الاول الذي يتجسد بوضوح في العراق، وفي المناطق ذات الأقلية الشيعية، مثل محافظة نينوى ومحافظة صلاح الدين، فمنذ الايام الاولى من الاطاحة بالنظام الديكتاتوري في بغداد، لم خرج المكون الشيعي في قضاء تلعفر – مثلاً- او قضاء طوزخورماتو وغيرها، من الطابع الحضاري ومن إطار الامة، ليُقحم في الاطار السياسي الضيق الذي رسمه الحكام الجدد بأفقه المحدود ورؤيته الضبابية، فالشيعة في تلك المناطق لم يحصلوا شيئاً من تولي الشيعة في بغداد رئاسة السلطة التنفيذية، سوى التمييز الطائفي والقنابل ثم التشريد، ليس لجرم اقترفوه، سوى أنهم محسوبون على المكون الشيعي الذي حاز على حصة كبيرة من الحكم ضمن نظام المحاصصة، مقابل حصة أقل للمكون السنّي وايضاً الكردي ضمن الدولة العراقية.

فما نسمعه من اعتداءات بالسيارات المفخخة بشكل مستمر وسقوط مئات الشهداء والجرحى في قضاء طوزخورماتو، لا يعود الى خلفية طائفية، بقدر ما تعود الى مشكلة سياسية وتنافس غير شريف بين الاكراد والسنة على الهيمنة والنفوذ، فالاكراد الذي يحلمون بـ "التطبيع" ووضع يدهم على الاقضية والنواحي جنوب كركوك، وهي على الاغلب شيعية، يسعون لسد الطريق على محافظة صلاح الدين التي تشرف ادارياً على هذه المناطق القريبة جداً لمحافظة كركوك الغنية بالنفط.

الحكومة العراقية من جانبها، وقفت طيلة السنوات الماضية موقف المتفرج على سفك الدماء وانتهاك الحرمات والممتلكات في هذا القضاء وغيره، تحت حجة الخلافات الادارية بين محافظتين، حتى إنها لم تعمل شيئاً على فرض قرارها بتشكيل قوة عسكرية من أهالي قضاء الطوز، لحماية مدينتهم، كما جرى الحديث عن ذلك قبل حوالي عامين، لرفض الاكراد الفكرة، وإصرار "صلاح الدين" على توفير الامن بنفسها للقضاء مع عجزها الواضح وتخاذلها في هذه المهمة. والمحصلة النهائية؛ أن شيعة الطوز وايضاً تلعفر وغيرها، إنما يدفعون ضريبة الدم لانتمائهم الى الحكومة الشيعية في بغداد.

هذه المحنة يعيشها الشيعة ايضاً في باكستان، مع الفارق في الوضع السياسي، حيث تزهق مئات الأرواح منذ سنوات لأناس يشاركون في إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، او حتى يؤدون فرائضهم الدينية في المسجد او في تجمعات وفعاليات خالية من أي لون من العنف والمواجهة. ثم انتقلت المحنة الى نيجيريا، البلد الافريقي الغني بالنفط، بعد أن انتقلت اليه عدوى التكفير والتطرف حديثاً بتشكيل جماعة "بوكو حرام". وهي الجماعة التي يرى فيها المراقبون، الذراع الافريقي لأخطبوط "داعش".

يسجل المراقبون مؤشرات صراع سياسي مرير بين ايران والسعودية في باكستان منذ عقود من الزمن، حيث أنفقت الاخيرة مليارات الدولارات على المساجد والمراكز الدينية والمؤسسات الاجتماعية ثم التنظيمات السياسية ليكون الفكر الوهابي والسلفي، البنية التحتية للثقافة الاجتماعية وخلفية للقرار السياسي في باكستان، وهذا يجعل أي حضور ايراني في هذا البلد بمنزلة جرس انذار خطير لابد من مواجهته بعنف وقسوة. وهذا ما حصل في نيجيريا ايضاً ، حيث بدأ الشيعة بالظهور بقوة مستفيدين من مناسبة عاشوراء، منطلقاً لحراكهم الجديد. الامر الذي قرأته "بوكو حرام" على أنه تحدٍ له ولمحوريته في الساحة، وأنه الوحيد الذي يدعو الى تطبيق الاسلام، لذا فان المسيرات العاشورائية التي ينظمها الشيعة هناك، يرونها في تصورهم، أنها بمنزلة إعلان حرب ضدهم.

أما الاتجاه الثاني الذي يغلّب الطابع الطائفي فانه هو الآخر يزيد في هشاشة الموقف عندما يقذف بالاستحقاقات الاجتماعية والسياسية الامنية وغيرها الى عمق التاريخ، داعياً الى حل تلك المشاكل التاريخية بإصدار اعتذار – مثلاً- على هذا الموقف او ذاك، ليًصار الى حل شامل...! هذا التوجه هو الذي جعل شخصية ثقافية وعلمية بارزة في مصر مثل الشيخ حسن شحاتة يتعرض لضرب مبرح ووحشي ثم يسحل في شوارع القاهرة ويموت تحت التعذيب من الضرب بالعصي والقضبان على يد جموع المتطرفين الموتورين الذي هجموا على داره.

التحوّل الى الحلقة الأقوى

لو نأخذ الخطاب المتبع في بلاد الغرب، مثل استراليا واوروبا واميركا وحتى البرازيل، لوجدنا الوجودات الشيعية هناك، على درجة من الفطنة والذكاء في طرح الافكار والمواضيع من علي المنبر الحسيني او من خلال فعاليات خيرية وثقافية، مما جعلها تكون نموذجاً مقبولاً في تلك المجتمعات، بل حتى لدى المؤسسات الحاكمة هناك. وهذا ما نحتاجه بشدّة في بلادنا الاسلامية، بل هو الأجدر والأولى، حيث ان الشيعة يعيشون في بلاد اسلامية، ويعدون انفسهم جزءاً من الامة ومن المجتمع الاسلامي الكبير. وهذا الاعتقاد الصحيح بحاجة الى مصداقية لتعزيزه في ارض الواقع امام الآخر، غير الشيعي.

مثال بسيط على ذلك؛ الأزهار التي تقدم الى المواطن الكندي او الدانماركي او الاميركي وغيره، يجدر ان تقدم قبل ذلك الى المواطن الباكستاني والخليجي والافغاني والعراقي والنيجييري والتنزاني وغيرهم، على أنها رسالة ود ومحبة وتعايش من الشيعة، بل هي تعريف بلغة محببة ومبسطة لعامة الناس بمنظومة الثقافة والسلوك التي تعود الى عهد الرسول الأكرم والأئمة المعصومون، عليهم السلام. وبالنتيجة؛ فان القضية ليست سياسية تضيق بالمصالح الآنية، ولا هي طائفية بحتة، إنما هي حضارية شاملة، فهل سمع الانسان المسلم في أي مكان من العالم الاسلامي او العالم بأسره أن انسان شيعي فجّر نفسه وسط الناس، او عرّض المجتمع الى الخطر...؟

هذه النقطة او الامتياز الكبير، بحاجة الى إثراء، كما هي عديد الافكار والنقاط المضيئة في الثقافة الشيعية المستمدة مصداقيتها من تراث أهل البيت، عليهم السلام. ومن سيرة رجال عظماء في العلم والانسانية. وهذا بدوره بحاجة الى توجه عام لدى المؤسسات والفعاليات والشخصيات العاملة في العالم الاسلامية والعالم بأسره بأن يخرجوا الشيعة من الأطر الضيقة الى رحاب البناء الحضاري والعطاء الانساني، فالتشيع ليس بحاجة الى التجمهر والتظاهر دائماً، رغم أنها مطلوبة إعلامياً، بقدر ما هو يحتاج الى لبنات لتشييد البناء الثقافي والفكري، والى مصاديق عملية للقيم والمبادئ التي طالما حفلت بها أدبياتنا الاسلامية ومؤلفات المفكرين والعلماء طيلة العقود الماضية.

اضف تعليق