q

من أهم ما تتميز به زيارة أربعين الامام الحسين عليه السلام، أنها تعد أكبر تجمع عالمي يجتمع فيه ملايين الزوار في رقعة مكانية صغيرة هي مدينة كربلاء المقدسة، هذا التجمع المليوني الذي يجمع المسلمين من كافة انحاء العالم ومن داخل مدن العراق كلها، يشكل ميزة فريدة على المستوى العالمي، في حالة استثماره ثقافيا من لدن الجهات الحكومية والمنظمات الأهلية بصورة صحيحة، فإن النتائج الإيجابية سوف تكون كبيرة جدا.

ويؤكد المعنيون من علماء ورجال دين ومفكرين أن زيارة الأربعين يمكن أن تنعكس على افكار الفرد والجماعة، بسبب سماتها الانسانية، فالفعل الجماعي الاول الذي يصدر عن هذه الزيارة، هو هذا الاتفاق الجمعي للناس على هدف واحد، بغض النظر عن الاختلافات الإنتمائية بينهم، فجميع المشاعر هنا تتوحد وتنصهر في بوتقة واحدة، ليكون الهدف منها هو الوصول الى مرقد سيد الشهداء في مدينة كربلاء المقدسة، وعلى الرغم من أن دافع التجمع ديني صرف، إلا أن توظيفه لصالح بناء المجتمع والدولة ثقافيا أمر وارد فيما لو تم التخطيط لهذا الهدف بصورة علمية صحيحة.

إن جميع المؤشرات تدل بصورة لا تقبل الشك، على أن هذا الجمع البشري الهائل يعد تعبيرا مبدئيا عن تمسك الزائرين بالفكر الحسني الخلاق، وما ينعكس عنه من رؤى ومبادئ تحث الجميع على التقارب والوئام وجعل الرابط الانساني المشترك بينهم، قادرا على ردم الفجوات التي ربما تكون سببا في حدوث تصادمات لا تصب في خدمة المسلمين.

من هنا يستدعي الأمر تحرك القائمين على الثقافة منذ الآن، في جهد ثقافي فكري استباقي، يخطط لاستثمار (زيارة الأربعين)، بطريقة تدرس هذه الظاهرة المتفردة على المستوى العالمي، كونها تحدث في العراق فقط، وتحديدا في كربلاء المقدسة، لذلك بدلا من إهمالها ثقافيا، او النظر إليها من زاوية مضادة، لابد أن يجد القائمون على الثقافة سبلا لتوظيف مزايا هذه الزيارة لصالح تطوير الثقافة، ومنظومة السلوك والتفكير لدى العراقيين والمسلمين عموما.

وعلى المثقفين أن يسهموا في رفع مستوى الإنسان المسلم، في العراق وخارجه، كي يصل الى المستوى الذي يؤهله للنظر الى الدين والمذهب والعرق والطائفة واشكال الانتماء كافة، بأنها لا يمكن أن تكون حاجزا وعائقا لتقارب وتعاون المسلمين وعلو رؤيتهم الثقافية ووعيهم في التعامل مع شؤون الحياة المتنوعة، بل يجب أن يكون التقارب والذوبان الانساني المتوحّد في محبة الامام الحسين عليه، درس مبدئي عملي كبير تتمخض عنه هذه الزيارة التي تستقطب ملايين الزائرين من جميع أنحاء المعمورة.

ما المطلوب من المنظمات الثقافية؟

إن الاستعداد الصحيح على المستوى الثقافي، لاستقبال هذه المناسبة الدينية المتفردة، أمر يقع على عاتق المؤسسة الثقافية بشقّيها الرسمي والمدني، من منظمات واتحادات ومجالس ثقافية تنتشر في عموم العراق، لأننا في الواقع لم نلحظ حراكا ونشاطا ثقافيا يضاهي تميّز هذه الزيارة التي تستقطب سنويا ما يصل الى 15 مليون زائر.

وهذا العدد قد يبدو جمعه في رقعة صغيرة كمدينة كربلاء المقدسة أمرا مستحيلا، وما يضاعف من هذه الاستحالة أن الزيارة تتكرر سنويا، وهي في حالة تصاعد مستمر من حيث الاستقطاب البشري، الامر الذي ينبغي أن يتم التفكير الثقافي الذي يوازي هذه الظاهرة، كونها لا تحدث في جميع مدن العالم، ليس في عصرنا الراهن، وانما على مر العصور.

لذا مطلوب أن تضع المنظمات الثقافية والمؤسسات الثقافية الحكومة، خطوات عملية تتناسب وحجم هذه الزيارة، مثل اقامة الندوات الثقافية والفكرية، ودعوة الشخصيات الثقافية المعروفة للمشاركة فيها، والاستفادة من خبراتها، في ضخ موجات متواصلة من الوعي الثقافي والفكري لعموم الزائرين الذين يكونون على استعداد تام لاستقبال مثل هذه الكم المتميز من الأفكار الثقافية التي يكون أساسها ومنطلقها الفكر الحسيني الخلاق,

لقد أعطت هذه الزيارة الخالدة دروسا ثقافية وفكرية كبيرة لبسطاء الناس، فيما يتعلق بتطوير الجانب الروحي لديهم، ومضاعفة ايمانهم، وقد سعى علماء ومفكرون ورجال دين وخطباء الى التوجّه نحو الزاسرين بأفكار تزيد من حصانتهم ووعيهم، ومن ثم خلق مجتمع متماسك ومستعد للتعامل مع روح الثورة الحسينية بما يخدم الواقع، ويطور وضع العراقيين والمسلمين عموما.

وهذا هدف ينبغي العمل على تركيزه وترسيخه والعمل على تحقيقه منذ الآن، ولكن شريطة أن يكون عملنا منظما ومخططا له ومدروسا، وليس عشوائيا او من دون تنظيم، لاسيما أن أعدد الزائرين تتضاعف سنويا على الرغم من الاستهداف الذي يتعرض له آلاف الزوار على بعض الطرق وفي بعض المناطق التي يسلكونها سيرا على الاقدام، هذا الاستهداف التكفيري المتطرف الذي يتم بالتفجيرات الانتحارية والمفخخات وكل الاعمال الارهابية الاخرى، لم يستطع كما اثبتت الأدلة ان يثني عزيمة الزوار على مواصلة المشي والسير تحقيقا لما يبتغون.

دوافع إيجابية لزيارة الأربعين

وهذا بحد ذاته ينبغي أن يمنح المثقفين دافعا مضاعفا، لكي يستغلوا العناصر الايجابية لهذه الزيارة ويجعلوها تصب في صالح الناس من الناحية الثقافية، خاصة أن زوار الحسين عليه السلام ازدادوا إصرارا وكثرت أعدادهم وتضاعفت، في مؤشر واضح للتحدي الكبير الذي يحمله الزوار في نفوسهم لمثل للاعمال الاجرامية التي يقوم بها الإرهابيون الذين فشلوا في إضعاف الارادة الحديدية التي يتحلى بها زوار سيد الشهداء عليه السلام، الامر الذي يستدعي فعلا ثقافيا يوازي هذا الاصرار وهذه التضحيات التي تفصح عن درس عملي آخر تعكسه هذه الزيارة المليونية، متمثلا بنشر ثقافة العمل التطوعي في خدمة الآخرين.

فمن بين أهم ما نستخلصه من وقائع وحيثيات أربعين الامام الحسين عليه السلام، درس التكافل العظيم لذي يشهد حضورا لافتا في ايام هذه الزيارة، حيث يتبارى الناس افرادا وجماعات في تقديم الطعام والشراب ومعظم الاحتياجات الاخرى لبعضهم، في صورة رائعة ومشرقة للسجية الانسانية النازعة الى الخير والتعاون والمحبة والتآلف، والرافضة لجميع مظاهر التعنت والقسوة والانانية وتفضيل الذات على الآخر، وهذه ميزة ينبغي استغلالها لصالح تطوير الثقافة والمزج بين الفكر والعمل لتطوير نوع السلوك المجتمعي.

وفي هذا السياق نضع مقترحات عمل ثقافية، قد تقدم بعض الرؤى للقائمين على الثقافة في العراق، وإمكانية التهيّؤ منذ الآن للاستفادة من زيارة الاربعين في المجال الثقافي، خدمة للمسلمين جميعا:

- إقامة الفعاليات الثقافية المتنوعة لمضاعفة وعي الزائرين، لاسيما ما يتعلق بإخضاع السلوك وربطه بالفكر الحسيني.

- محاربة مظاهر الفساد بأنواعه وأشكاله كافة، كونها مرفوضة تبعا لمبادئ الحسين (ع).

- عدم جعل طقوس هذه الزيارة آلية، بل ينبغي جعلها دينية ثقافية لتعضيد القيم الصحيحة.

- حث الزائرين، وهم بالملايين، على ضرورة الالتزام بما سعى إليه الامام الحسين وضحى من أجله بنفسه وذويه وصحبه عليهم السلام.

- ليس من المعقول أننا حسينيون، وفي الوقت نفسه، ننسى مبادئ الحسين (ع) مع نهاية هذه الزيارة المليونية!.

- اذا تم التأكيد على نشر الثقافة الحسينية بين جموع الزائرين، مبدئيا وعمليا، فإننا نضمن تصحيحا كبيرا على مستوى المجتمع عموما.

- واذا تم اصلاح مزيدا من الناس، فإن الفاسدين وفسادهم سوف يتم حصره في زاوية ميتة.

- هذا يؤكد أن القيم الثقافية يمكن أن تسهم بصورة فعالة في تحسين اداء المجتمع وانتمائه للحداثة.

- لا يُستثنى من تطوير النشاط الثقافي مؤسسة او منظمة ما، فجميع الجهات الثقافية المعنية بتطوير الناس، تقع عليها مسؤولية استثمار زيارة الأربعين، لتحقيق قفزة واضحة، على مستوى التفكير والسلوك.

- وأخيرا تلوح في الأفق زيارة الاربعين القادمة، ومطلوب من المثقفين والمفكرين والقائمين على الثقافة، إعداد خرائط عمل يمكن التوجّه من خلالها الى الطاقات المليونية القادمة لكربلاء المقدسة، وكسبها لصالح ثقافة انسانية تخدم العراقيين والمسلمين جميعا.

اضف تعليق