q

مثل كل عام في يوم العاشر من المحرم، حيث ذكرى الفاجعة الأليمة والكبرى على الانسانية جمعاء، وحيث تشتدّ مراسيم إحياء هذه الذكرى بأشكال مختلفة من أناس يأتون كربلاء المقدسة من كل بقاع الأرض، نقترب ايضاً من إثارة الانتقادات لهذه الشعيرة الحسينية او تلك، ويأخذ التطبير نصيبه الأكبر من هذه الحملة الاعلامية، التي تتوسل بالدرجة الاولى، باسلوب الدعاية والإشاعة والترويج بين اوساط الناس، بغية التقليل من شأن هذه الشعيرة، ومحاولة تسقيطها.

أساس المشكلة؟!

أي "مسألة" أو "قضية" تتحول الى مشكلة بفعل اللغط حولها او سوء الفهم بشأنها، يسارع أهل العلم والحكمة والفطنة الى تقصّي الأمر، وما اذا كانت هذه المشكلة حقيقية، تمثل أزمة وتشكل تهديد على الانسان؛ الفرد والمجتمع والامة؟ أم انها مشكلة ثانوية ومفتعلة لدوافع معينة، فتهمل هكذا مشاكل بانتفاء واضمحلال تلك الدوافع والعوامل.

مثال ذلك؛ حديث البعض عن وجود الرجال والنساء في مراقد الأئمة المعصومين والأولياء الصالحين، وحتى في مسألة مشاركة النساء في بعض الشعائر الحسينية، مثل السير على الاقدام يوم الاربعين، وغير ذلك، في حين إن الأزمة والمشكلة الحقيقية في الوعي الديني الذي يستدعي الحديث من دعاة الثقافة والفكر لأن تكون المرأة، مؤمنة، بكل معنى الكلمة، قبل ان تكون حسينية، في التزامها بالحجاب واتشاحها بالعفة، بما يجعلها صورة او نموذج مقتبس من شخصية زينب العقيلة، عليها السلام.

بيد أن الذي نسمعه من هذا وذاك حول شعيرة التطبير لا يرقى الى هذا المستوى من الفهم والتعامل الذكي مع ممارسة اكتسبت قوتها بالتقاء جذورها الانسانية بالجذور الدينية، فيسعى البعض لإضفاء طابع "المشكلة الحقيقية"، وحتى البعض يعدها "إشكالية" دينية وثقافية، وعندما نأتي الى اساس هذه الاشكالية، نجدها ليست في ديننا وثقافتنا إنما هي في الآخرين؛ في غير المسلمين وغير الموالين لأهل البيت، فالمشكلة لديهم وليست لدينا، مما يؤكد عدم وجود مشكلة حقيقية لدينا من الشعائر الحسينية بتاتاً. فضلاً عن الفتاوى العديدة لعلماء وفقهاء كبار منذ اكثر من قرن من الزمن، لا تعارض هذه الشعيرة ولا تحرمها وحسب، وإنما تجد فيها فوائد عديدة، فهي من وسائل نشر مظلومية الامام الحسين، عليه السلام، كما انها وسيلة لترسيخ الثقافة الحسينية في المجتمع. وهذا - بالحقيقة- يدعو الى الأسف الشديد ممن يصفون انفسهم بـ "العلماء" أو "المثقفون" وهم ينطلقون من الشعائر الحسينية نفسها في أيام محرم وصفر.

ومن ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، الى حيث تذكير الناس بماضيهم المرير، وامكانية أن يصابوا بالضعة والصغار أمام الشعوب والأمم الاخرى، بسبب هذه الشعيرة الحسينية. على أن "التطبير" مشهد يعبر عن "التخلّف وقلة الوعي الذي كان سائداً طيلة العقود الماضية، وعليه لابد من التحول الى مرحلة جديدة...". وهم يتناسون السبب الرئيس في خلق حالة التخلف في المجتمع، لاسيما المجتمع العراقي طيلة السنوات الماضية. ومن الذي أبعده عن الوعي والثقافة، وأشاع الميوعة والافكار السلبية، مثل الرضوخ للأقوى، وعدم تحمل مسؤولية التغيير، والانطواء في دائرة الأنا، والتي قامت عليها الانظمة الديكتاتورية، وآخرها نظام صدام البائد.

لا تسلبوا روح المقاومة من الأمة

لم أجد كثير حاجة للتطرق الى ما يذهب اليه البعض من وجود طقوس اجتماعية وعادات لدى شعوب كثيرة في العالم، ورغم تفاهتها وعدم اهميتها لحياة الانسان وفكره وثقافته، نجد الإصرار على الممارسة، ثم الترويج لها في وسائل الاعلام العالمية، دون أي حرج، كما هي "مطاردة الثيران" في اسبانيا، او الطقوس الدينية في الهند، وغيرها. فنحن لا نكتسب قوة ومتانة العقيدة والايمان بخواء وضعف الآخرين، ثم ان مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، تقدم وتعطي قبل ان تنظر الى هذا وذاك، طيلة القرون الاربعة عشر الماضية.

بيد أن الواجب فيما أراه حول التطبير؛ التذكير دائماً بالسبب – من جملة اسباب- وراء تمسّك شريحة واسعة من المجتمعات الشيعية بهذه الشعيرة، وأخصّ بالذكر، المجتمع العراقي. فقد كان التطبير موجوداً منذ عشرات السنين، يلتزم به موالون ومحبون للإمام الحسين، عليه السلام، من غير العراقيين، كما تؤكد ذلك المصادر التاريخية، ثم انضمّ الى قائمة الشعائر الحسينية للعراقيين، عندما تحوّل الى وسيلة للإعراب عن الرفض والاستنكار لأي سياسة ومنهج يتصل بالمنهج الأموي – اليزيدي، وهذا المستنقع سقط فيه أول مرة، اشخاص تسنّموا مناصب عليا في العهد الملكي، فكانت المحاربة للشعائر الحسينية، ومنها التطبير. وبما أن هذه الشعيرة تمثل القمّة في التفاعل النفسي والوجداني وحتى العقلي، مع قضية الامام الحسين، عليه السلام، وأنها – رغم ظاهرها الدموي المثير- لن تلحق أي أذى أو ضرر بالانسان المطبّر، فانها تحولت مع مرور الزمن، من وسيلة رفض شديدة، الى أداة ردع صادم، مع استذكار مشاهد تاريخية مروية في مصادر معينة، بان "التوابون" هم أول من ضربوا رؤوسهم بالسيوف، للإعراب عن ندمهم لعدم نصرة الإمام الحسين، عليه السلام، فكان هذا التطبير منطلقاً صاعقاً نحو الثورة على الحكم الأموي آنذاك.

وعند كل باحث منصف، لن يكون هذا إلا التفسير الوحيد لخوف الانظمة الديكتاتورية البائدة في ايران والعراق، من هذه الشعيرة الحسينية، وقد بلغ هذا الخوف الذروة في ظل نظام صدام، الذي رأى في مواكب المطبرين، بمنزلة الكتائب الفدائية الزاحفة للإطاحة بنظام حكمه، او على الأقل؛ زعزعة ثقة الناس بهذا النظام، وتسقيط شرعيته، فكانت الاعتقالات وغرف التعذيب والتنكيل والمطاردة وحتى القتل، لا لأنهم معارضين سياسيين او ينطلقون من مشاريع للحكم، وإنما لأنهم يحملون روح النهضة والثورة على واقعهم الفاسد، مستلهمين الفكرة من النهضة الحسينية وما تحمل من افكار حضارية وانسانية.

هذه الروح نفسها، هي التي الهبت في الشباب العراقي مشاعر الرفض والتمرّد ضد النظام البائد، اكثر من مرة، خلال فترة حكمه. ومن نافلة القول هنا؛ وشهادة للتاريخ فان التنظيمات السياسية الشيعية التي ظهرت آنذاك معارضة للنظام البائد، تبنت هذه الشعيرة الحسينية، كوسيلة لتعبئة النفوس لإنطلاق الانتفاضة الجماهيرية، رغم وجود بعض الملاحظات عند البعض على هذه الشعيرة، فكان السكوت عنها هو المطلوب آنذاك لمواكبة الحالة الاجتماعية.

وإذن؛ فان التطبير، يمثل عملية مراجعة ذاتية لمن يشاء، وفي مرحلة لاحقة؛ تكوين روح المقاومة لكل انحراف وفساد في المجتمع او الدولة، سواء يصدر من فرد واحد، او من مسؤول كبير، او من جهات خارجية.

ونحن نعيش أيام العزاء على مصاب الإمام الحسين، عليه السلام، واستذكار الآلام التي تجرعها، عليه السلام، على يد أعداء الدين والانسانية، هل يُحسن لمن ينشر الثقافة والوعي، أن ينتزع طريقة المواساة وآثارها النفسية وما يترتب عليها من نتائج عظيمة على الواقع الخارجي، بحجج وذرائع لا تمت الى الثقافة والوعي بأي صلة...؟! .

اعتقد أن المطلوب في الوقت الحاضر، تجاوز هذه المرحلة التي يفترض ان تكون من الماضي، والتفكير بتقوية هذه الشعائر وتنظيمها لتخرج الى الساحة بأحسن ما يكون وتعطي نتائجها المرجوة في البناء الثقافي، فهناك الحديث عن الشباب والتطبير؛ الدوافع والاهداف. وهناك الحديث عن حفظ الذوق العام وترسيخ مفهوم التطبير كمدرسة تربوية واخلاقية يرى فيها النظافة والتواضع والالتزام الديني وكل القيم المقدسة.

ان تزايد عدد مواكب التطبير كل عام في العراق، وانضمام شريحة الشباب بالدرجة الاولى، والتأثير الملموس لآثار هذه الشعيرة على المعنويات في ساحة المواجهة امام التحديات الخارجية. كل ذلك يدعو الى إعادة نظر حقيقية لمن يسمع ويعي، لينطق وينشر، بأن لا يتخلف عن المستوى الثقافي والنمو المتصاعد للوعي الجماهيري بفضل مفاهيم النهضة الحسينية، فأي "صدام" جديد مع شعيرة حسينية، يعني العودة الى "صدام" آخر مع مفاهيم النهضة الحسينية، وهو ما لا نرجوه ، لاسيما من الاوساط الثقافية.

اضف تعليق