q

المعارضة السياسية حق يكفله الدستور في الأنظمة الديمقراطية، ولكن المفارقة تكمن في الأنظمة الدكتاتورية التي تحكم شعوبها وفق دساتير تكفل المعارضة أيضا، وإن كانت بحدود أقل من الانظمة الديمقراطية، من حيث النص اللفظي، ولكن المشكلة ليس في نص الدستور حول تنظيم المعارضة، وإنما في تطبيق هذا النص، فالأنظمة الدكتاتورية تحكمها دساتير شكلية، منطوقها أو نصّها قد يكون جيدا في بعض الحالات، ولكن يستحيل تطبيقها حرفيا، بسبب تناقض ما يرد في النص الدستوري مع مصلحة الحاكم الطاغية.

واذا كانت حرية الرأي معمول بها في الدول المتطورة سياسيا وثقافيا، كما في بعض دول الغرب، فإنها تكاد تكون معدومة في الدول المتأخرة المحكومة بأنظمة غالبا ما تكون فردية، أو يحكمها نظام الحزب القائد، أو الأوحد، وفي هذه الحالة يكون التعبير عن الرأي صعبا إن لم يكن مستحيلا، وقد يتم قتل وتعذيب ونفي وملاحقة وتشريد الآلاف، بسبب معارضتهم للنظام السياسي، وهذا ما حدث في العراق ابان النظام البائد.

وبسبب تحريم قيام الاحزاب السياسية في العراق، وسيطرة حزب البعث على الحكم في العراق طيلة عقود، فإن وضع المعارضة اصبح في حينها في غاية الصعوبة، لاسيما أن النظام نفسه كان مطلق الحرية، لا يحدده دستور ولا قانون، لذلك معارضة ذلك النظام كان يقود الافراد والتنظيمات الى الاعدام او النفي او الملاحقة.

وكان الناس يجدون في مواكب العزاء الحسيني متنفسا لهم، فيعلنون في (الردّات الحسينية للعزاء)، مواقفهم الرافضة للظلم والطغيان والفساد، الأمر الذي دفع بأجهزة النظام الأمنية الى منع المواكب الحسينية من الظهور العلني في الشوارع، ثم تصاعدت الأوامر لتمنع حتى المواكب التي تقام في الحسينيات او البيوت الخاصة، فقد طالها المنع التام، والسبب واضح ومعروف، أن المعارضين للنظام كانوا يجدون في مواكب العزاء فرصة مثالية لإطلاق الصوت والرأي المعارض للنظام وظلمه بصورة علنية وبلا خوف، ولسنا هنا بصدد ما كان يتعرض له الحسينيون من عقوبات تصل الى القتل والحبس المربد وما شابه.

استثمار المواكب في جميع الأزمنة

ولم يتوقف انطلاق الصوت المعارض عبر المواكب الحسينية على نظام سياسي معين، بمعنى أن موكب العزاء الحسيني يتم استثماره في جميع الأزمنة، وشتى الحكومات، حتى تحول الى منصة علنية لمحاسبة النظام السياسي، واعلان الأخطاء التي يرتكبها بحق الشعب، وهذا ما نلاحظه اليوم في ظل النظام الديمقراطي العراقي الآن، فمن الملاحظ أن الحكومة العراقية الحالية، تقوم من خلال اجهزتها الأمنية المختلفة، بحماية زوار ابي عبد الله (ع)، وتحميهم من اية هجمات محتملة قد يشنها المتطرفون والتكفيريون الارهابيون، وتقدم له الخدمات الطبية والبلدية والطعام والشراب والمنام وما شابه.

أي أن الحكومة الحالية اختلفت في هذا المجال، مجال التعامل مع المواكب الحسينية عن الانظمة الحكومية السابقة لاسيما نظام البعث، بصورة كليّة، ولكن الامر الذي يمكن ملاحظته بسهولة ويسر، أن المواكب الحسينية لم تغادر مهمتها الاساسية، ولم تتنازل عنها، ونعني بها دورها في مراقبة الحكومة واعلان أخطائها او فشلها في هذا الجانب او ذاك، ليس الحكومة وحدها هي التي تتعرض لانتقادات مواكب العزاء الحسينية، بل جميع مؤسسات الدولة يمكن أن تكون تحت مطرقة هذه المواكب سنويا في مناسبة عاشوراء.

فالبرلمان العراقي الجديد، وهو مؤسسة دستورية تم انتخابها من لدن الناخبين العراقيين في عدة دورات متعاقبة، يمكن أن يكون هدفا للأهازيج و(الردّات) الحسينية في مواكب العزاء، كذلك يمكن أن تنال الاحزاب السياسية حصتها من هذه المواكب في عاشوراء، وهذا ما تم ملاحظته والاستماع إليه في عدد من المواكب الحسينية التي اعلنت انتقادها بوضوح للاحزاب السياسية التي اشتركت في ادارة العراق وموارده وثرواته منذ نيسان 2007.

كما نلاحظ ذلك في هذه الردات التي أطلقها احد المواكب الحسينية في كربلاء المقدسة بمناسبة استشهاد الامام الحسين عليه السلام في ذكرى عاشوراء:

(إحنه مو دولة قانون ولا مواطن

إحنه نحارب هلفساد كائن من كائن

احنه ندافع عن الناس

خذنه الغيرة من العباس

مانهتم لأي مسؤول يصغر لو يكبر

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر)..

هذه بعض ما أعلنته مواكب العزاء الحسينية من مواقف واضحة ورافضة لبعض الأنشطة التي تقوم بها بعض الاحزاب السياسية في المرحلة الراهنة.

انتقاد الذات ومحاسبتها

ومما يُحسَب لصالح المواكب الحسينية والقائمين عليها والمشاركين فيها في إعدادها وتهيئتها، أنها لا تتردد في انتقاد الذات، فمن المعروف أن هناك من السياسيين من هو محسوب على المذهب الشيعي اليوم، وأن من أوصله الى سدة الحكم هم ناخبون عراقيون من الشيعة، ولكن هذا بعض هؤلاء الساسة الذين تسلقوا على أكتاف المواطنين البسطاء، لم يفوا بعهودهم ووعودهم في ادارة شؤون الناس والدولة والثروات التي أهدروها من دون تخطيط او زازع من ضمير، ولم يقدموا للشعب العراقي وللناخبين أية خدمة تدل على وفائهم لهم، أو حرصهم على بناء دولة متطورة مستقرة، فكان الاهتمام بمصالحهم الذاتية والعائلية والحزبية أولا، فيما تم إهمال الشعب والفقراء إهمالا شبه تام.

ومما ورد في توصيف هذا الوضع، كما جاء في (ردّات) المواكب الحسينية المعارضة ما يلي:

(هاي مكشوفة الحقايق

هذا مو سر ونذيعه

البعض استعداد عنده

للوطن واهله يبيعه

والبعض من سلطة الشيعة

شوَّهوْا سمعة الشيعة)..

إن المواكب الحسينية، كانت ولا تزال، وستبقى مصدر توجيه وتصحيح للحكومات والقائمين على مؤسسات الدولة، وهي تمثل قوة ضغط هائلة من أجل التصحيح، كذلك تعد مساحة مفتوحة ومحمية لإطلاق الصوت المعارض الحقيقي الصادق، بعيدا عن صراعات السياسيين فيما بينهم، تلك التي تقوم على الدس والتسقيط المتبادَل، أما ما يتم إعلانه عبر المواكب الحسينية، فالهدف منه اعلان المعارضة الحقيقة لأي نواقص تتواجد في العمل السياسي الحكومي او سواه، كما يحدث في بعض الكتل والاحزاب السياسية.

وهكذا كانت مواكب العزاء الحسينية، ولا تزال، وستبقى، مصدر رعب للحاكم الظالم والفاشل والانتهازي، فتقض مضجعه وتطيح به مهما كانت درجة ذكائه او قدرته على اللف والدوران والتضليل، لذلك تبقى هذه المواكب، منصة معلنه ودائمة ومحمية للمعارضة بكل أشكالها وصورها، وبهذا تبقى عامل تصحيح أساس، يضع نفسه في خدمة الشعب، وفي الوقت نفسه يمثل قوة ضاغطة على العمل الحكومي والسياسي بأنواعه كافة.

اضف تعليق