q

تستفيد الأمم من تجاربها، من رموزها، وتوظف القيم المستقاة منها لصالح الاجيال اللاحقة، إلا نحن المسلمين، لا نريد أن نتنبه للحلقات المضيئة في تاريخنا، بل نحن نهمل ثقافتنا العميقة، ونميل الى التسطيح والشكلية، لا نقول هذا الكلام من باب تقريع الذات المجاني، لأن الشواهد تدل على أننا لا نهتم بالعمق الثقافي لرموزنا، بقدر انبهارنا بثقافة الآخر!.

هذا الحكم ليس من باب تأنيب الضمير، إنما الوقع يقدم لنا أدلة كافية لإهمال الثقافة العميقة، ومنها على سبيل المثال، ثقافة عاشوراء التي لم نعطها حتى الآن استحقاقها كما يجب، والأسباب كثيرة بعضها معلَن ومعروف، وبعضها خفي وله مقاصد خفية أيضا، وعلى العموم لا يريد القائمون على الثقافة في البلدان الاسلامية، الاعتراف بهذا الخلل الخطير، حيث لا نزال حتى اللحظة بعيدين عن ثقافة الفكر الحسيني والقيم التي يستنطقها ويبثها بين طيات النسيج الاجتماعي، فيما لو تصدى لها المعنيون بالثقافة ومنهم المثقفون بطبيعة الحال.

وهناك أدلة كثيرة تثبت ما نوّهنا عنه وذهبنا إليه، منها أننا نعيش هذه الايام ذكرى واقعة الطف، ولا شك أننا بحاجة ماسة الى استثمار هذه الواقعة بما تحمله من قيم انسانية كبيرة، يمكن في حالة الالتزام بها وتطبيقها عمليا في حياتنا، أن تنقلنا من مجتمع يعاني مشكلات حياتية كثيرة، الى مجتمع منظّم يعرف ماذا يريد وماذا عليه أن يقدم وينشط ويجتهد، على أننا نتفق بأن عاشوراء تقدم لنا منظومة ثقافية مكتملة تنطوي على قيم انسانية، تصب كلها في تعضيد الفعل الانساني الذي ينسجم مع الفطرة البشرية، وهو امر لا يستطيع تجاهله احد، فالمثقف انساني بطبعه، وثقافة عاشور ترتكز على القيم الانسانية كافة.

أهمية العمق الفكري الأخلاقي

وهذا يعني أن المثقف ينبغي أن يغادر السطحية، ويبحث عن العمق الفكري والاخلاقي للقيم، ودورها في صناعة مجتمع (مثقف)، ليس بالشكل، والانبهار بالنموذج (العولمي) الغربي، كما يحدث للشباب مثلا، وعلينا التمسك بما تطرحه ثقافة عاشوراء من قيم تستهدف تطوير المنحى الانساني في عموم مجالات الحياة، وتسعى لصنع فرص تطوير الحياة.

كذلك مطلوب أن لا نسمح بحالة خلط الاوراق التي تحاول أن تعطي وجها آخر لهذه الواقعة التي وقفت الى جانب الانسان، لاسيما عندما يحاول بعضهم تشويه القيم العاشورائية حين يحصرونها في خانة ضيقة، ذلك أن الجوهر الانساني لمبادئ الامام الحسين عليه السلام، موجّه الى الانسانية جمعاء، كونه يمثل رمزا ومثالا للكفاح الانساني أجمع، وليس حكرا على فئة بعينها كما يحاول ان يشيع بعض المغرضين السطحيين ممن ينسبون أنفسهم للثقافة والمثقفين، لكن افكارهم وافعالهم تفضحهم، وتبيّن بأنهم متطرفون ويعلنون غير ما يضمرون.

علما أن المسؤولية الأخلاقية تحتم على المثقف أن يغادر هذه النظرة الضيقة، وأن يسمو الى ما هو أبعد، حيث القيمة الكبرى للانسان، ولا شك أن ما ينطوي عليه الفكري الحسيني من ثراء وعمق، يسهم في إعلاء شأن الانسان، لذا فإننا عندما نعيش ذكرى عاشوراء ونستذكر القيم الانسانية لها، لابد أن نتعلم منها، ولا يمكن أن تمر بنا من دون الاستفادة من منظومة القيم التي تطرحها، خاصة اننا نمر في منعطف سياسي اجتماعي اقتصادي خطير، ينطوي على تحولات هائلة في حياة المسلمين والعرب والعراقيين، لهذا نبقى بحاجة الى استثمار انسانية مبادئ واقعة الطف، والتمسك بها كونها تسعى بالجميع نحو الارتقاء.

إن الواقع العالمي يتغير على نحو مستمر، وفي ظل هذه المتغيرات يضيع من لا يتمسك بجذوره الثقافية، وثقافة عاشوراء يمتد عمقها عشرات القرون، وهذا العمق الزمني تفتقر له معظم ثقافات العالم، حتى بعض الثقافات الغربية منها، من هنا نحن نمتلك ميزة افضل وخاصية العمق التاريخي، فالمتغيرات التي تطول مناطق مختلفة وشعوبا وامما، تستوجب التمسك بالهوية والخصوصية.

تحولات كبيرة تطول العالم

ولا شك أن بلدنا العراق، يعد من اول البلدان التي تعرضت لمثل هذه التحولات الجذرية، قبل اكثر من عقد من السنوات، الامر الذي غيّر كثيرا من القيم السياسية التي انعكس تغييرها على القيم الاجتماعية ايضا، فظهرت قيم دخيلة لا علاقة لها بالاسلام، ولا علاقة لها بالعرف أو الارث الاخلاقي للعراقيين، وقد ادى ذلك الى تراجع قيم الخير، وصعود قيم بديلة تقبل الفساد والظلم وتبرره، وهو امر ترفضه ثقافة عاشوراء جملة وتفصيلا.

لذلك عندما نستذكر هذه الايام واقعة الطف ونعيش نفحات الثقافة العاشورائية، لابد أن نتمسك بقيم هذه الثقافة على نحو عميق وليس سطحي، لأن خلاصنا من مظاهر التردّي والتراجع، تكمن في تمسكنا بأصالة هذه الثقافة التي تشكل حصانة للجميع، سائلين ومسؤولين، ولاشك أننا جميعا ندرك بوضوح صوت الحق والسلام والرحمة الذي أطلقه الامام الحسين (ع)، معلنا أنه لا يعبأ بالسلطة، وليس ساعيا إليها، لأنها لا تمثل هدفا، ولا تستحق أن تكون كذلك.

كما ورد في قوله عليه السلام: (اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام)، لكن اعادة الامور الى نصابها هو الهدف الأسمى، هذه هي الركيزة الاساسية التي تمثل اهداف الثقافة العاشورائية الرافضة للظلم جملة وتفصيلا، والداعية الى احترام حقوق الناس وحرياتهم، فضلا عن تحريمها بشكل قاطع للتبذير والاسراف واهدار اموال الفقراء، وفق تخريجات تسمح للفاسد أن يجد سبيله الى التجاوز على أموال الفقراء.

لذا تدعونا ثقافة عاشوراء الى أن نشيع قيم احترام الجميع للجميع، والمحافظة على حقوق الجميع، وحرمة انفسهم على بعضهم البعض، وممتلكاتهم وحرياتهم، وحتى افكارهم وآرائهم، وتدعونا الى الوقوف صفا واحدا متماسكا، لدرء المخاطر التي قد تستهدفنا، أيا كان مصدرها، فالأهم هو انسجامنا وتقاربنا وقبولنا لبعضنا، ثم نبذ التطرف والعنف، والعمل وفق قيم التكافل فيما بيننا، والتعاون والاحترام المتبادل، وحماية اموال الفقراء، وانتهاج مبدأ العدالة بين الجميع.

وهكذا تبدو حاجتنا كعراقيين ومسلمين الى ثقافة عاشوراء وعمقها المعنوي والتاريخي كبيرة، فهي اليوم بمثابة الخلاص لنا، وهي الطريق الذي ينبغي أن نسير عليه، في عالم مضطرب، يتكالب بعضه على بعض، والضحية هم الضعفاء الذين لا يستندون الى ثقافة رصينة وهوية عميقة تحميهم من الاندثار والذوبان في الثقافات الاخرى، هذه هي ثقافة عاشوراء التي اراد لنا الامام الحسين عليه السلام أن نتمسك بجوهرها وليس سطحها، لأنها طريقنا الى الحياة السليمة، وسبيلنا الى العدل والسلام والتقارب والتعايش مع بعضنا بأمن وسلام.

اضف تعليق