q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

اكثر من نبي اقل من إله

عن التقديس والتدليس

لم يقبل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وصفه من قبل رئيس الوزراء الحالي بـ (القائد الضرورة) تشبيها له بصدام حسين الذي حمل او حُمِّل هذا اللقب من قبل المحيطين به ايام سطوته واستبداده.

رفض المالكي لم يأت على لسانه، بل تكفل ذلك النواب المنتمين الى كتلته في البرلمان، حيث دعت النائبة عن ائتلاف دولة القانون عواطف نعمة رئيس الوزراء حيدر العبادي الى توضيح المقصود بقوله (القائد الضرورة) في خطابه الأخير، داعية اياه الى توضيح من المقصود بقوله (القائد الضرورة)، (فالعراق ليس فيه قائد ضرورة وهذا المصطلح زال بزوال النظام البائد).

وقد هدد ائتلاف دولة القانون رئيس الوزراء حيدر العبادي بإقالته في حال لم يعتذر لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن تصريح القائد الضرورة. وقد رأى الائتلاف ان تصريح العبادي بشأن القائد الضرورة غامضة ويريد التوضيح حول ذلك..

الاستفزاز الذي حصل لم يحدث سابقا حين تم تشبيه المالكي بانه (مختار العصر) ربما لان جميع محازبي رئيس الوزراء السابق قد ارتضوا له هذا التشبيه الذي يحيل الى شخصية تاريخية لها رمزيتها المكثفة في الوعي الشيعي، وليس مثل (القائد الضرورة) الذي تختلف رمزيته عن ذلك، حيث يشير ويستبطن الاستبداد والطغيان والمقابر الجماعية والتنكيل في الوعي الشيعي.

ولان القائد الضرورة ربما تحيل ايضا الى التذكير بمرحلة سياسية يعتقد الجميع او يتصورون انها انتهت الى غير رجعة، ومجرد تشبيه احد القادة الجدد معناه اننا لانزال في المربع الاول، مربع الاستلهام والتماهي مع تلك المرحلة.

الغرض من هذه السطور ليس الاتفاق او الاختلاف مع احد الطرفين حول دلالات وصف القائد الضرورة، بل هي محاولة للوقوف عند دلالات الاعتراض والاحتجاج التي بدرت من اعضاء كتلة رئيس الوزراء السابق، وهي اعتراضات واحتجاجات تذهب ضد فكرة النقد نفسها، على اعتبار ان رئيس الكتلة او الحزب وهو في هذه الحالة (نوري المالكي ) فوق النقد او التعريض به، سواء من قبل سياسيين اخرين او من قبل وسائل الاعلام.

ففي بيان لائتلاف دولة القانون يرد فيه تعبيرات (الابواق المسمومة-استهداف القيادات السياسية والوطنية-الأفواه النتنة-الأفواه الخبيثة-إخراس الفضائيات المأجورة-الاصوات النشاز-ماكنات الاكاذيب)، وهي ترفض ذلك لأنها توحي او تشير الى (زعيم ائتلاف دولة القانون السيد نوري كامل المالكي).

فكرة التعالي على النقد، او تقديس الزعيم او الفرد الحاكم هي ليست ظاهرة عربية واسلامية فقط،، رغم ان جميعنا قرأنا عن حكام مستبدين وطغاة وظفوا المقدس في ألقابهم لإضفاء هالة من القداسة على ذواتهم، بعد ان حملوا القاب (المعتضد بالله - المعتمد على الله - الحاكم بأمر الله المتوكل على الله - الناصر لدين الله - المعز لدين الله - المنصور بالله) وغيرها.

و(تسييس المقدس: مصطلح يشير إلى جعله وسيلة لتحقيق غرض سياسي ينحصر غالباً في احراز السلطة والثروة، وبالمقابل فإن ‘تقديس المسيس، مصطلح يعني رفع السياسي إلى مرتبة لا تجوز معها مساءلته عما يفعل، وإعطاءه حصانة ضد المساءلة القانونية، وجعله فوق القانون، وبالمجمل فإن هذا التعاطي يضر بالمقدس بوضعه في خانة التسييس، في وقت ينفع فيه المسيس برفعه إلى خانة التقديس). محمد جميح / تسييس المقدس وتقديس المسيس

في وقتنا الحاضر، لم تقتصر هذه الظاهرة على الحركات الاسلاموية في تقديس زعاماتها، بل نجد ذلك ايضا لدى بعض الحركات المسيحية اللبنانية، حين نستمع الى جبران باسيل، بعد انتخابه رئيسا للتيار الوطني الحر في لبنان، وهو يخاطب ميشال عون قائلا: (أيها القائد والاب والرفيق، أركع أمامك أنا ورفاقي لنرفع رأسك بنا دوماً، فلتباركني أنا لا لأكون مكانك لأنه لا أحد يملأ مكانك).

ونجد ذلك ايضا في كوريا الشمالية، حين عين الزعيم الكوري شقيقته لتكون مسؤولة عن (المساعدة في تعزيز سلطة كيم جونغ اون بتنفيذ مشاريع تمجيدية) لتكريس عبادة شخصية الزعيم الكوري.

في واقعنا العربي، ومنذ الخمسينات تقريبا بعد ظهور الانقلابات العسكرية وصعود الضباط الى الحكم، ساد خطاب اعلامي ودعائي مؤثر، وظيفته تشويه وعي الناس، وصناعة دكتاتور (مؤله) رافق ذلك مناهج تعليمية تكرس هذا التأليه والتقديس للقادة والحكام.

فظهرت توصيفات من قبيل (القائد الضرورة - القائد الملهم - سيف العرب - باني مجد العراق - إلى الأبد إلى الأبد حافظ الأسد - سيبقى حافظ الأسد القائد الرمز، هو رمزنا وعزنا، ومجدنا وأبونا - المجاهد الاكبر - القائد الرمز - القائد الأممي - ملك ملوك أفريقيا).

في كتابها (السيطرة الغامضة، السياسة والخطاب والرموز في سورية المعاصرة) تقوم ليزا وادين بدراسة ظاهرة تمجيد الحاكم (حافظ الأسد) من خلال دراسة الخطاب الإعلامي وتعميم رموز السلطة في كل مكان كالصور والتماثيل الضخمة لحافظ الأسد في كل مكان، وأنها أصبحت استراتيجية للحصول على السيطرة عبر المطاوعة وليس الشرعية، فتقول: «يصوّر حافظ الأسد في الخطاب السياسي السوري المعاصر، عموماً على أنه حاضر في كل مكان وأنه عالم بكل شيء. يظهر الأسد من خلال الصور المنشورة في الصحف بصورة «الأب»، و«المناضل»، و«المعلم الأول»، و«منقذ لبنان»، و«القائد للأبد»، و«الفارس الشهم»- في إشارة الى أنه صلاح الدين الأيوبي المعاصر). وتقول أيضاً: «إن الأيقونات ذات الصبغة الدينية والشعارات التي تزين جدران الأبنية، ونوافذ السيارات، وأبواب المطاعم، كلها تشهد بخلوده. وبتأثير قوة التكرار، فكل مواطن متمرس على هذا الخطاب الرمزي في الدولة السورية، وتشكل هذه الحالة إحدى العلامات المميزة للنظام الأسدي).

وأطلقت الكاتبة على هذه الظاهرة أوصاف (أصبح الأسد مثل الإله) وأن هناك ممارسات من السلطة ترسخ هذا المفهوم كاستعمال كلمة (بايعناك) وأيضاً توقيع هذه البيعات للأسد بالدم، وهو شبيه ايضا بما كان يقوم به صدام حسين في العراق، وايام الاستفتاء الصوري على حكمه والتي كانت تحمل تسمية (يوم البيعة).

 (لذلك تبلورت عملية شخصنة الحكم لتكرس أن الحاكم (السوبرمان) يحكم بكل شخصيته وروابطه وتعييناته. ويحكم لأنه ممتاز واستثنائي، وامتيازه كلي وشامل، وليس مهارة سياسية متفوقة، أو نزاهة. إنه استثنائي كياناً وليس أداء، ولا يقاس به أي من محكوميه. والامتياز الكياني اللصيق بشخص الحاكم جوهري وأساسي ولا يُكتسب). مأمون كيوان/تقديس الحاكم أعلى مراحل التسلطية.

وتعتبر ليزا وادين في كتابها ان (ظاهرة تقديس الحاكم لا تعد ظاهرة هامشية بل هي استراتيجية للسيطرة على المجتمع قائمة على المطاوعة بدلاً من الشرعية. وينتج نظام المطاوعة من خلال المشاركة الإجبارية في أشكال الامتثال الزائفة الجلية، سواء لأولئك الذين يخترعون هذه المظاهر ولأولئك الذين يستهلكونها).

هذا التقديس لشخص الحاكم ورفعه الى مقامات عليا تصل به احيانا الى مكان اعلى مرتبة من النبي، وادنى من الله جل جلاله، وان كانت لا تجاهر بذلك صراحة، الا ان ما يستتبع تلك المكانة يمكن الكشف عنه من خلال العقوبات الجسيمة التي يوقعها اتباع هذا الحاكم على المعترضين على (رسالته النبوية) و(اوامره الالهية) والتي تتم عادة بتصفيتهم في احواض التيزاب ومصادرة حياتهم، فهو سريع العقاب ولايمهل، لان ذلك يخدش من صورته التي يريد غرسها وتكريسها في وعي المحكومين.

اضف تعليق