q

يرى معنيون بالديمقراطية أنها تعني شكلا من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة - إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين - في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين، وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.

ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على المعنى الضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطية، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية.

والديمقراطية تناقض الأرستقراطية، الاولى تعني حكم الشعب، والثانية تعنى حكم نخبة علما أن جميع الحكومات الديمقراطية على مر التاريخ القديم والحديث، تشكلت فيها الممارسة الديمقراطية من فئة النخبة حتى منح حق العتق الكامل من العبودية لجميع المواطنين البالغين في معظم الديمقراطيات الحديثة من خلال حركات الاقتراع في القرنين التاسع عشر والعشرين.

كذلك فإن لفظ الديمقراطية لوصف الديمقراطية الليبرالية يشكل خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو الشرق، فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة، وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات، تحت نظام الديمقراطية الليبرالية أو درجةٍ من درجاتهِ.

ويعيش في بداية القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن نصف سكّان الأرض في أوروبا والأمريكتين والهند وأنحاء أخرَى، بينما يعيش معظمُ الباقي تحت أنظمةٍ تدّعي نَوعاً آخر من الديمقراطية، تتناقض مع أشكال الحكم التي يمسك شخص واحد فيها بزمام السلطة، كما هو الحال في نظام الحكم الملكي، أو حيث يستحوذ على السلطة عدد قليل من الأفراد.

مرحلة التحولات الكبيرة

في التاريخ السياسي الحديث للعراق، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 1921، نشأت بعض الديمقراطيات، ولم تكن مكتملة بسبب عدم الاستقلال، وكانت حقيبة الملكية في العراق ذات مؤشرات عن النظام الديمقراطي، وكانت هناك مؤسسات دستورية، وفصل للسلطات، إلا أن عيب هذا النظام السياسي على الرغم من شكله الديمقراطي، تبعيته للاستعمار الانكليزي.

في حقبة الوصول الى السلطة بالقوة (الانقلابات العسكرية) لم تتشكل ديمقراطية في العراق يشار لها بالبنان، وصولا الى التحولات الهائلة بعد نيسان 2003 ونقصد بذلك التدمير الكامل لركائز الدولة العراقية والمرافق والمؤسسات الحكومية كافة، وبعد التأسيس الجديد لهذه البُنى، أطلق على هذه المرحلة تسمية (التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق)، ولكن رافق هذه الديمقراطية عثرات كبيرة، فقد وضعت العصيّ في دولاب الديمقراطية فأبطأت، بل وتراجعت كثيرا.

فهنالك ظروف معروفة رافقت التجربة العراقية، جعلتها تعاني من معوقات كثيرة وكبيرة، وأسهمت في بطء حركتها ونضوجها، بمعنى واجهت هذه التجربة عقبات صعبة منها الارهاب، واجندات الدول الاقليمية، وحداثة التجربة للطبقة السياسية، وبدء بناء مؤسسات الدولة الدستورية من الصفر، فكان الانشغال بالجانب الامني عاملا معوقا لتقدم التجربة الديمقراطية في العراق، كذلك هناك تخطيط ربما هو خارجي بمساعدة داخلية على توفير حواضن للفساد.

ومع ذلك، لا شك أن الديمقراطية كمنهج حياة، وكنظام حكم يسوس الدولة والشعب، أفضل من النظام الأحادي الدكتاتوري المستبد، فمع الاخطاء التي رافقت هذه التجربة، وعدم النضوج والتعثر، إلا أن المضي في طريق الديمقراطية هو الأفضل للعراق بطبيعة الحال، وإن كان الطريق طويلا وشاقا ومليئا بالعقبات (والدسائس) والمشكلات.

لا بديل عن الديمقراطية

ولكن في نهاية المطاف.. الديمقراطية هي الخيار الأفضل عندما تكتمل وتقوى وتأخذ شكلها الدستوري المنضبط، علما أن النضوج والاكتمال لا يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها، لاسيما أننا جميعا نقر بأن العقبات التي واجهت وتواجه هذه التجربة، تجعل منها بطيئة، وقد يصل الأمر بالشعب وبمن يهمه الأمر الى اليأس.

وفي جميع الاحوال، ليس امام العراق والعراقيين خيار آخر، يضاهي الديمقراطية، حتى مع انطلاق الاصوات التي تنادي بأهمية عودة المركزية، ورفض التعددية، واللجوء الى الفردية والقبضة الحديدية في ادارة الدولة، بسبب انتشار الفساد، وضعف اداء الوزارات والحكومات المحلية، وقلة الخدمات، وضعف المؤسسة العسكرية، والتدخلات السافرة لأنظمة دول الجوار في القرار العراقي، إلا أن هذا كله لا يبرر العودة الى الاستبداد.

فالقبول بالاستعباد السياسي يعني القبول بالذل، والعودة الى أغطية الظلم التي كان الواقع العراقي يتلفع بها من اقصاه الى أقصاه، لهذا رفض العراقيون العودة الى العنف السلطوي، وتحملوا الارهاب والفساد وفقدان الأمن، على أمل أن تتحقق احلامهم بدولة مدنية يسودها العدل الاجتماعي والمساواة في الفرص والعيش في كنف حياة حرة.

إن هذا الهدف الكبير الذي رسم له العراقيون بصبر، وخططوا له بأناة وأمل، يستدعي منهم مزيدا من التحمّل والتضحيات، إذ علمتنا التجارب الاخرى للشعوب أن لاشيء مهم وراقي تحصل عليه من دون تضحيات جسيمة، وهذا ما يتعرض له العراق والعراقيون اليوم، وهم يعرفون الجهات التي لا تريد اكتمال تجربتهم الديمقراطية ووقوفها على قدميها.

إن اسلوب رفع الألغام وابعادها عن طريق الديمقراطية، هو اسلوب العراقيين في بناء تجربتهم، ولكن ينبغي التنبّه بقوة الى قضية التأسيس ومتانته، فالأسس المتينة والصحيحة في بناء الدولة العراقية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، هي التي تحدد مستقبل الدولة، هذا ما ينبغي على العراقيين التنبّه له والعمل من اجله وفق سياسة الصبر الطويل، والابتعاد عن العشوائية.

فالتخطيط للأهداف البعيدة المدى يستدعي رؤية عميقة، ودراية وخبرات محلية متمرسة، ولا بأس الاستفادة من الاصدقاء في الخارج، بشرط ضمان دقة رؤيتهم والحياد والابتعاد عن المصالح الذاتية، وصولا الى تجربة ديمقراطية تنهض بالعراق كدولة مدنية تضاهي الدول المتقدمة، وتقف معها جنبا الى جنب، بعزٍ وافتخار.

اضف تعليق