q

تحدث الكثير عن اسباب الهجرة الجماعية للعراقيين والعوامل المؤدية لها، وقد أجاد الكتاب وأحسنوا تناول الموضوع من جوانب متعددة، بيد أن القضية تبدو بالنسبة الينا (نحن الباقون على أرض الوطن)، كمن يودع اصدقائه على رصيف القطار، فهو يتحرك بينما يواصل تلويح يديه ويسهب في عبارات التوديع والإعراب عن المشاعر الجياشة، حتى تتحول آخر مقطورة، الى نقطة صغيرة، ثم يتحول القطار الى أثر بعد عين.

هكذا شبابنا العراقيون الذين اقتحموا غمار الطريق المحفوف بالمخاطر نحو بلاد الغرب للحصول على الاقامة والعيش هناك لاسباب ودوافع عديدة. فالذين وصلوا الى النمسا – مثلاً- في طريقهم الى المانيا او فنلدا او سائر دول اللجوء، لن يتطلعوا الى ورائهم، حيث بلدهم وما خلفوه من معاناة وذكريات مرّة، إنما يتطلعون الى الامام، وما ينتظرهم من استحقاقات العيش الدائم. ولا أجانب الحقيقة اذا قلت: أن النصائح التي قدمت للحكومة ولسائر الجهات المؤثرة في استفحال ظاهرة اللجوء والتخلّي عن الوطن، ستحدّ او حتى تقلل منها في هذه الفترة – على الاقل-.

دوامة الاندماج أو الانغلاق

أول ما يواجه المهاجر العراقي – كما سائر المهاجرين- في الغرب، مسألة القابلية على الاندماج الاجتماعي والثقافي، ومحاولة مسايرة المجتمع الغربي في تقاليده وأعرافه، وقد بالغ البعض في هذه القضية، عندما تناولوا القضية بقالب؛ "يا أبيض يا أسود"! فأما الاندماج الكامل والذوبان الكامل في المجتمع الغربي، وما يعني – لهذا البعض- التخلّي عن التقاليد والقيم المقدسة التي كان يتمسك بها في بلده، أو الانغلاق التام، وتعريض نفسه لضغوط نفسية ومعركة مدمرة في محيطه الأسري، يخسرها بخسارة ابنه او ابنته او حتى زوجته. وهذه الفرضية لم تصمد كثيراً أمام حقائق كانت مغيبة عن الشخصية العراقية المهاجرة، فقد أثبتت الشواهد العديدة في غير بلد غربي، أن المهاجر العراقي، صاحب أروع شخصية وأكثرها اتزاناً واحتراماً بين الجاليات المهاجرة في الغرب. بينما النماذج المبالغ فيها، ليست سوى حالات شاذة، ربما تعود لمشاكل نفسية واجتماعية لها خلفية تاريخية لدى ذاك المهاجر.

ففي دول مثل هولندا وبريطانيا والسويد وكندا والولايات المتحدة، نلاحظ الحضور النشط والمكثف للجالية العراقية، بشكل يثبت للشعوب الغربية بقيمة الهوية العراقية، وفي نفس الوقت يثبت لهم ايضاً، مدى احترام هذه الجالية لهم، وتعاملهم الذكي مع الثقافة وطريقة الحياة في الغرب.

أحد الاخوة المقيمين في لندن روى لي منذ فترة، أنهم ابتكروا طريقة حديثة لنشر القضية الحسينية في أيام عاشوراء بين سكان لندن، فقبل انطلاق المواكب الحسينية في الشوارع، يبدأ الشباب؛ بنين وبنات بتوزيع منشورات صغيرة تتضمن نبذة عن حياة الامام الحسين، عليه السلام، ونبذة عن شخصية يزيد، فهم لا يتحدثون عن الاخير بانه شارب الخمر او يلعب بالقرود والفهود، كما يتطرق الى ذلك اصحاب الخطباء على المنابر، وحتى تحلله الاخلاقي وفجوره وغير ذلك، إنما هنالك حديث عن الاستبداد بالرأي وانتهاك حقوق الانسان وحرمان الاطفال والنساء من الماء، فيما الامام الحسين، عليه السلام، داعية للديمقراطية وإشراك الناس في صنع القرار.

أو ما لاحظته في تقرير مصور لفكرة مبدعة في كندا، حيث بادر مجموعة صغيرة من الشباب بتوزيع أزهار جميلة على المارة في مدينة تورنتو، تحت عنوان "عيد الأم"، مقابل "عيد الحب"، لما تتضمن هذه المبادرة من مضامين دينية وانسانية واضحة، يفهمها الغربيون.

هذا في جانب، وفي جانب آخر، فان المدن الغربية، لا تخلو بين فترة وأخرى، من اقامة معارض للفن التشكيلي او ملتقيات أدبية او ندوات ثقافية وغير ذلك. ففي البلاد الغربية أعداد كبيرة من الاطباء والمهندسين والمثقفين، الى جانب شريحة علماء الدين واصحاب المؤسسات الثقافية والدينية والاجتماعية، وهو ما يترك أثره على السلوك العام للمهاجر العراقي في هذا البلد او ذاك، بما يكوّن صورة نمطية له تميزه عن سائر ابناء الجاليات الاخرى، التي يُعرف عنها السلوك الاجرامي والمشبوه، مثل الاتجار بالمخدرات والدعارة والعمل بالممنوعات، وصولاً الى التحريض على العنف والكراهية والتطرف الديني.

من ذلّ الهجرة الى الدور الدبلوماسي!

ربما يستبعد البعض أن يكون المهاجر العراقي سفيراً لبلاده في بلاد المهجر، لاسباب يتصورون انها "موضوعية"، وانه إنما يهاجر بلاده، ليتخلّص من الضنك والفشل واليأس، فكيف يتحدث عن هكذا تجربة بصورة ايجابية، واذا كانت النظرة ايجابية، فما الذي دفعه للهجرة والتغرّب وركوب المخاطر في البحار والادغال، وتجرّع أشكال الآلام والمعاناة؟

إن البلد الذي نتحدث عنه، ليس دائماً، الجانب المادي، من عمل وسكن و وضع مالي جيد وحياة مرفهة وغير ذلك، وهي كلها مطلوبة لا شك، بيد أن الانسان يبقى متعلقاً بهويته وانتمائه ولن يكون قادراً بأي حال من الاحوال الاستغناء عن ذلك، وهذه مسألة انسانية ولا تخصّ العراقي بين افراد العالم.

حدث أن أحد الشباب العراقيين كان يدرس في الجامعات الامريكية، وكان في القاعة طلاب من أديان مختلفة، مثل البوذي والهندوسي واليهودي، فحصل أن سأل الاستاذ كل طالب عن ديانته وطلب التحدث قليلاً عن هذه الديانة، فقام الجميع وتحدثوا عن دياناتهم، ثم جاء دور الشاب العراقي، وعندما سأله الاستاذ عن ديانته؛ قال: مسلم... فطلب منه التحدث قليلاً عن الاسلام، فلم يكن من هذا الشاب سوى أن لاذ بالصمت، معرباً عن جهله بديانته! مما أثار سخرية من كانوا في القاعة، ومن اجل ذلك طلب من أقربائه في البلاد الاسلامية تزويده بكتب عن العقيدة والدين...

وفي كتابه "الى ابنائنا في البلاد الاجنبية"، يذهب سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الى أبعد من ذلك، عندما يدعو الشباب المهاجر الذي يذهب "لأجل الدراسة او العمل، أن يتّبعوا مكامن الضعف، ونقاط الفساد والانحلال في تلك البلاد، وذلك بقصد تجنب بلادهم من الوقوع في مثلها والانسياق اليها، وبقصد جعلها وسيلة لفحظ بلاد الاسلام من تسرّب المستعمرين اليها". وهذه طبعاً؛ خطوة متقدمة جداً في حياة الجالية العراقية في الغرب، بيد أنها طموح مشروع ينبئ عن همة عالية ورؤية حضارية ثاقبة. بيد أن الواقع الحالي يشير الى وجود أرضية خصبة لنجاح تجربة جديدة لمهاجرين جدد الى الغرب. فقد بلغني أن العراقيين في هولندا قاموا بتنظيم ما يشبه المواكب الخدمية بإعداد وجبات طعام "سفري" باعداد كبيرة وتقديمها لللاجئين القادمين الى هولندا وبلجيكا القريبة، وهم من جنسيات مختلفة، معظمهم من السوريين.

ثقافة العطاء والتسامح والتعايش واحترام الآخر، هو مما تعود عليه العراقيون، سواء من هو مقيم في الغرب من قبل، او من وصل اليه حديثاً، وحتى من هو موجود في البلاد، فهذه ليست من المسائل التي يطالها التغيير والتحوير بسبب الفساد الاداري او فشل النظام الحاكم او حتى تعرض المفاهيم والقيم لضربات موجعة من رجال السلطة. بمعنى أن القيم والخصال الطيبة هي التي تبرز ساطعة الى الواجهة في الغرب، فيما تتمرغ في الوحل حقيقة الدجل والخداع والتزييف الذي مارسته شريحة واسعة من رجال السلطة في العراق.

اضف تعليق


التعليقات

قاسم لابراهيمي
العراق
ليش تعيشون بذلة المن عفتو الوطن عفتولي الإعراب صح ماكو امان في العراق بس أهل البيت حامينة2015-09-11