q
القناعة لا تشير الينا في الخطاب الديني الى الكسل والقبول بالذي أدنى، بقدر ما هو تسكين للنفس، وإبعاد القلب عن القلق والزيغ ليكون داعماً لفكر الانسان نحو العمل والانتاج في ظروف نفسية ممتازة، كما أن العمل الموصى به في طريق الخير والصلاح وخدمة الصالح العام، الى جانب المنفعة الشخصية...

"الأجل محتوم والرزق مقسوم فلا يغُمنّ أحدكم إبطاؤه فإن الحرص لا يقدمه والعفاف لا يؤخره والمؤمن بالتحمّل خليق"

أمير المؤمنين، عليه السلام

من المؤسف أن يمتلك الانسان شيئاً ولا يتمكن من الاستفادة منه بسبب صبّ نظراته واهتماماته على ما يمتلكه الآخرون.

وهذا الشيء ربما يكون فرصة عمل جيدة، او زوجة صالحة مع أولاد طيبين، بل وربما تكون صحة وعافية وخلوٍ من أي مرض أو ألم أو عاهة في البدن، وايضاً؛ ربما يكون الأمن، والحرية، والثروات، وحتى القيم الدينية والأخلاقية، والتاريخ المشرق، ليس للفرد الواحد، وإنما لجموع الناس في اطار البلد الواحد والأمة الواحدة.

وفي بلد مثل العراق، بل وحتى العديد من البلاد الاسلامية نلاحظ ظاهرة المقارنة مع البلاد الأخرى بما لديها، ثم الخروج بأحكام سريعة تلغي كل شيء وترفع البلد الآخر كنموذج يحتذى به للحياة، وتكرار مقولة: "ياليت كنا مثلهم"! علماً أن المقارنة تأتي –على الاغلب- وفق نظرات سطيحة وظاهرية، دون التعمّق لمعرفة ثمن الازدهار الاقتصادي والرفاهية التي يعيشها ذلك الشعب، ولا يُحسب للظروف الموضوعية المختلفة أي حساب.

هذه الحالة النفسية تستفحل عند من يتعرض لفشل مزدوج في حياته وأعماله؛ بالاستفادة مما لديه، وما أنعم الله عليه، وفي التخلص من آثار هذا الفشل في محيطه الاجتماعي، والظهور بأنه قادر على تحقيق الكثير، او انه جدير بما هو أفضل.

إن الالتفات الى ما موجود يعني تعبئة الجهود والقدرات للاستفادة بشكل أكبر، وإن كان لدينا القليل، وهذا بحد ذاته يحتاج الى مهارة خاصة، وعزيمة وحماس ونوايا صادقة نحو غايات سامية نرى مصادقيها في شعوب وأمم بلغت مراقي العلم والتقدم بعد أن كانت تعيش الفقر وضنك العيش وقلّة الامكانات والثروات.

ولعل النجاح في هذه المرحلة يضمن النجاح في المراحل القادمة، كما تعلمنا التجارب، أما اذا كانت تمُدّ عينيها الى هذا البلد المتقدم او ذاك المرفّه وتتمنّى ان تكون مثلها، لما كنّا اليوم نتخذها القدوة والنجم اللامع البعيد الذي نتمنى محاذاته.

ولمعالجة هذه المعضلة النفسية، قدم العلماء وصفات عدّة بالاستضاءة من القرآن الكريم، ومن روايات أهل البيت، عليهم السلام، بالتزام السير في خطين متوازيين؛ القناعة، والعمل، فنحن نقرأ الآية الكريمة: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، كما نقرأ في آية اخرى ما يدعونا الى العمل؛ {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

والقناعة لا تشير الينا في الخطاب الديني الى الكسل والقبول بالذي أدنى، بقدر ما هو تسكين للنفس، وإبعاد القلب عن القلق والزيغ ليكون داعماً لفكر الانسان نحو العمل والانتاج في ظروف نفسية ممتازة، كما أن العمل الموصى به في طريق الخير والصلاح وخدمة الصالح العام، الى جانب المنفعة الشخصية.

بل وأكثر من هذا فان الربط المحكم بين القناعة والغِنى في روايات أهل البيت، وتحديداً فيما روي عن أمير المؤمنين في "غُرر الحكم ودُرر الكَلِم"، تؤكد محورية العمل والاجتهاد فيه بالاستفادة من الموجود لذا فانه "يستدل على عقل الرجل بالتحلّي بالعفّة والقناعة"، كما ورد في هذا الكتاب القدير، وإلا فاذا طبقنا هذه الرواية في نفس الكتاب؛ "إنكم إلى القناعة بيسير الرزق أحوج منكم إلى اكتساب الحرص في الطلب"، بشكل حرفي، فيعني القبول بالوضع الذي نعيشه ولا نفكر بالتطور والتقدم في حياتنا، وهذا ما لا يرتضيه لنا الاسلام مطلقاً.

لذا فان قول أمير المؤمنين بأن "من اكتفى باليسير استغنى عن الكثير"، دعوةٌ لاستثمار القدرات الموهوبة للإنسان، وما لديه من امكانات وفرص، مهما كانت بسيطة ويسيرة، ومن خلال الاستفادة المثلى مما لديه يكون في مراقي الاغنياء بالعلم والثقافة والمعرفة.

ولنا في تجارب الناجحين بالعالم خير برهان، فنحن نقرأ عمن بدأ من ورشة صغيرة، ثم انطلق الى رحاب المصانع الضخمة، ومن اعتمد على مزرعة بسيطة، ثم توسع الى مزارع وحقول ومراعي، فهؤلاء لم يرفعوا أصواتهم للمطالبة بالدعم الحكومي، ولا بأموال او امكانات من الأهل والاقارب والاصدقاء، ويعلقون كل خطوة لهم بما يصلهم من هذا او ذاك، وإنما استفادوا مما لديهم من ابسط الامور، فنراهم اليوم تدين لهم الشعوب بالفضل في رفاهية العيش وسهولة الوصول الى اشياء كثيرة من خلال الابتكارات المذهلة التي لم تدع زاوية ومكان من حياتنا إلا واقتحمته وأثرت فيه بما يصعب الاستغناء عنه.

اضف تعليق