q
إنسانيات - مجتمع

الإفراط في التصلب

ثقافة التصلب: منظور جديد لفهم المجتمع

إن الامعان في النظر لتركيبة وهيكل نمط التفكير الثقافي العراقي تقودنا الى استنتاج واضح وصريح مفاده: مع مراعاة الفروق الديموغرافية، والشخصية بين العراقيين، فإن السمة العامة للثقافة العراقية إنها قلقة، وحذرة ومتحفظة وترتكز الى فلسفة دفع المفاسد. إن هذه المظاهر للثقافة العراقية تتشابه تماماً مع نموذج الثقافة المتصلبة الموصوفة نظرياً...
بقلم: منقذ داغر وميشيل كيلفاند

ظلت دراسة المجتمع العراقي تدين بالفضل للرواد الأوائل الذين بدأوا بدراسة وتحليل المجتمع العراقي استناداً للمعارف والعلوم والمناهج التي تعلموها أثناء تواجدهم في الجامعات الغربية في النصف الأول من القرن العشرين. لكن العقود الاخيرة من القرن العشرين وبداية هذا القرن شهدت ثورة منهجية جديدة في علم الاجتماع العابر للثقافات .cross-cultural sociology

فقد بدأت فرق الباحثين المكونة من مختصين في مختلف العلوم الاجتماعية (علم النفس، والاجتماع، والاونثريولوجيا، والاحصاء وغيرهم) بالعمل معاً لاستكشاف أوجه الشبه والخلاف بين المجتمعات الإنسانية ليس من خلال الملاحظات الشخصية حسب بل من خلال الدراسات التجريبية والمسحية surveys التي لا تكتفي بالافتراضات النظرية وإنما تحاول اختبارها عملياً في مختلف الشعوب والجماعات.

لقد ركزت تلك الدراسات معظم جهودها لسبر غور الثقافات الاجتماعية في الدول المتقدمة وبالذات في الدول الغربية، مع تجاهل شبه تام لدراسة الثقافات الاجتماعية في الدول النامية ومنها العراق.

لقد أتاحت الفرصة لمؤلفي هذه الدراسة بدء صفحة من التعاون في حقل الدراسات السوسيو- سيكولوجية في العراق والمنطقة العربية عموماً منذ عام 2008. وكان لخلفيتهما العلمية المتنوعة أثر كبير في تكامل المنهج العلمي لهذه الدراسة. اعتمدت الدراسة على تطبيق مقياس نفسي علمي على عينة كبيرة تمثل كل شرائح المجتمع العراقي وعبر ثلاث موجات مسحية استغرقت أكثر من سنتين.

أتاح ذلك ولأول مرة فرصة علمية حقيقية ليس فقط لاختبار كثير من المقولات السائدة عن الثقافة العراقية كازدواج الشخصية، والقبلية، والطائفية، وعدم المرونة… الخ، بل أيضاً لمعرفة الكيفية التي تشكلت بها هذه الثقافة وبالتالي تأثير ذلك في سلوك كثير من العراقيين.

لقد كشفت نتيجة هذه الدراسة المستطيلة longitudinal أن العراقيين ذوو ثقافة اجتماعية متصلبة. بل أن مقارنة الأرقام التي أسفرت عنها عملية القياس مع نتائج أكثر من 50 دولة أخرى تم قياسها أثبتت أن الثقافة الاجتماعية العراقية هي الأشد تصلباً في العالم، ولذلك أسميناها ثقافة اجتماعية مفرطة الصلابة Hyper-Tight Culture? وهي بلا شك حالة غير صحية تفسر كثير من المظاهر الاجتماعية التي سنتحدث عنها لاحقاً.

فالعراقي في المجمل كما أظهرت الدراسة ذلك، مفرط في الحذر، شديد الطاعة، كثير التحفظ، وكثير الاهتمام بمحيطه الاجتماعي. ويبدو هذا الهيكل التراتبي لنمط التفكير العراقي ملائم جداً لبيئة مليئة بالقلق الأمني وفيها حالة شديدة من عدم الوضوح والتأكد. فالشخص الذي يعيش في مثل هذه البيئة لا بد إن يكون شديد الحذر خوفاً من ارتكاب الاخطاء أو تجاوز المعايير الثقافية الكثيرة التي قد تنفجر عليه إذا تم تجاوزها.

إن الامعان في النظر لتركيبة وهيكل نمط التفكير الثقافي العراقي تقودنا الى استنتاج واضح وصريح مفاده: مع مراعاة الفروق الديموغرافية، والشخصية بين العراقيين، فإن السمة العامة للثقافة العراقية إنها قلقة، وحذرة ومتحفظة وترتكز الى فلسفة دفع المفاسد. إن هذه المظاهر للثقافة العراقية تتشابه تماماً مع نموذج الثقافة المتصلبة الموصوفة نظرياً.

إن هذا الافراط في التصلب الذي كشف عنه قياس نمط التفكير الثقافي للعراقيين يصلح إن يسمى بنمط الثقافة العصبية. والعصبية كمصطلح هنا مأخوذ من ابن خلدون الذي عد أساس الملك والغلبة. ويقصد بالعصبية من حيث الوظيفة ذات ما نقصده من المعايير الاجتماعية. Norms فالعصبية عند ابن خلدون تؤدي وظيفة توحيد الجماعة وعدم تشتتها ويمنع وجودها الخلاف والفرقة وتتوحد الملة بوجودها.

وكان رأي ابن خلدون إن شدة العصبية هي التي تؤدي الى الغلبة وضياعها هو ما يؤدي لإضاعة الحكم. بمعنى إنه في الوقت الذي يلعب فيه التعصب للجماعة (كما يبدو الوضع عليه من قياسنا لنمط التفكير العراقي) دوراً في توحيد الجماعة وحفظها، فإنه يمكن إن يؤدي الى إشعال المشاكل بين الجماعات من جهة، وتعريض الفرد لخيارات سلوكية قد تكون متناقضة حينما يكون منتمياً لأكثر من جماعة مطلوب منه الالتزام بمعاييرها (عصبيتها) وكما هو الحال في العراق.

أن نمط التعصب هذا لا يسخر، لعوامل سنناقشها فيما بعد، لصالح المجتمع العراقي ككل وانما لصالح الجماعات المتباينة والكثيرة التي يتشكل منها المجتمع العراقي وبما يديم سطوتها. وهذا سوف لن يؤدي فقط الى أضعاف وحدة المجتمع الكلية حسب بل سيزيد من المشاكل بين الجماعات ويزيد من الضغوط النفسية على الأفراد كي يُرضوا الجماعات المختلفة التي ينتمون لها. فالطائفة جماعة، والدين جماعة، والقومية جماعة، والمنطقة جماعة، والايدلوجية الفكرية المتبناة تمثل جماعة، وهكذا يصبح الفرد محتاراً في ارضاء تلك الجماعات التي ينتمي لها في غياب المظلة الجامعة لكل تلك الجماعات.

* منقذ داغر: مدير الشرق الأوسط في كالوب الدولية للأبحاث.
* ميشيل كيلفاند: أستاذة الثقافات الاجتماعية المقارنة في جامعة ســــــتانفورد.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق