q

في اللحظات الاخيرة من آخر مباريات كرة قدم للمنتخب الوطني الايراني، حيث كان الجميع ينتظر صفارة الحكم للإعلان عن تأهل المنتخب الى مونديال فرنسا عام 1998، ولأول مرة منذ عشرين عاماً، كنت حينها في وسط طهران، وقت الظهيرة، والمفاجأة لا تقل عن نتائج المباريات، إذ لا اختناقات مرورية ولا زحام المارة. وفي سيارة أجرة ظفرت بها، كانت هنالك سيدة مسنّة الى جانبي – سيارات الأجرة في طهران ليست دائماً خاصة براكب واحد- فعلّقت على هذا الهدوء العجيب في الشوارع، وابتهاج الناس للنتيجة التي حصل عليها المنتخب؛ "لتجرِ بعض الدماء في عروق هذا الشعب..."!.

نعم؛ الاسقاطات السياسية على الوضع الاجتماعي والنفسي، هو الذي جعل الموطن الايراني – آنذاك- يتخذ من هدف يحرزه لاعب كرة قدم، بمنزلة الجرعة الحيوية لإنعاشه وتجديد الحياة فيه، بعد طول فترة من التوتر والشدّ العصبي في مجالات عديدة بالحياة. حتى شكك بعض المحللين في الصحف حينها، بقدرة مؤسسات الدولة ورموزها بخلق هكذا مشهد جماهيري ومليوني حاشد مهما كانت الاسباب.

وظاهرة "التنفيس" عن الهموم من خلال تظاهرات عفوية او حتى منظمة، نلاحظها في غير بلد من بلادنا التي تشهد الاسقاطات السياسية على حياة المواطن، بحيث تجعله يدفع ثمن برامج اقتصادية وخطط خماسية لتنمية شريحة خاصة وحسب، او يدفع ثمن منهجية خاصة في السياسة الخارجية تستنزف القدرات والثروات، او حتى يدفع ثمن تجربة ديمقراطية فاشلة، وهو بالكاد يلمسها بأحد حواسّه، بينما يتذوق يومياً مرارة العيش، ويواجه حالة اليأس القاتل من كل شيء.

وفي العراق، عندما نبارك التفاعل الجماهيري المستمر مع المشهد السياسي، كون العملية الجارية، تمثل حالة نهضوية في الطريق الصحيح، وليست نتاج فعاليات سياسية خاصة، كما تشهده عديد دول العالم ذات النظام الديمقراطي وايضاً "التربية الديمقراطية" الصحيحة، حيث يخرج الناس للاحتجاج على اجراءات اقتصادية معينة، بدعوة من حزب معين، او للاحتجاج على مشروع يضر بالبيئة، وهذه المرة يكون المحرّك والدافع منظمات او جمعيات لحماية البيئة وهكذا... طبعاً؛ هذا ما نرجو ان يسود في عراقنا العزيز في قادم الأيام، عندما تكون الديمقراطية لدينا قد تطورت فكرياً وثقافياً وتحددت فيها الاهداف والغايات.

وحتى نصل الى هكذا مرتبة في الديمقراطية، علينا ايجاد القاعدة السليمة التي يقوم عليها هرم السلطة، فنحن ابناء "كيفما تكونوا يولّى عليكم"، فعندما يرفع رئيس الوزراء في العراق، لواء الإصلاحات، بمعنى انه يريد محاربة الفساد المنتشر في كل مكان، لذا فانه قرأ رسالة الشارع العراقي منذ اللحظة الاولى، فهو ربما سمع المطلب القديم بحل جذري ونهائي لأزمة الكهرباء، بيد انه أدرك ان الشكوى الأساس في كوامن الناس، تنبع من حالة الاستئثار بأموال الشعب، من اجل ذلك جاءت قراراته التي لم تكن بناءً على طلب المتظاهرين، بإلغاء بعض المناصب التي وجد انها غير ضرورية او دمج بعض الوزارات وغير ذلك. الى جانب هذا الاجراء الحكومي، لا ننسى أن بعض الارقام التي تندرج ضمن حالات الفساد، تتعلق برواتب لحمايات مسؤولين او منتسبين للقوات المسلحة، وإن كانت هذه الارقام لا تشكل شيئاً الى جانب ملايين الدولارات التي ابتلعها هذا "المسؤول" أو ذاك، لكن تبقى بالمحصلة حالة من حالات الفساد التي يؤخذ عليها، بينما اذا القينا عليها نظرة من بعيد، وجدنا انها عبارة عن تغطية حاجات آلاف من العوائل، بفعل البطالة وانعدام فرصة العمل التي تجبر هذا الشاب وذاك ليكون منتسباً في الشرطة او الحمايات وغيرها. هذا فضلاً عن الملايين او المليارات من ثروة هذا الشعب، التي نُثرت أيام الانتخابات، على شكل مواد غذائية وسلع استهلاكية وهدايا مختلفة وحتى "ستوتة"، وفي بعض البلاد العربية "توك توك"، التي تمثل لدى الكثير وسيلة نقل و استرزاق لا تقاوم.

وإذن؛ فنحن أمام حالة أبعد مما هي حالة "تنفيس" عن الغضب والكبت، لتصل الى مشاركة عامة في الحرب مع الفساد، سواءً في التظاهرات الجماهيرية، او في جميع في جميع نواحي الحياة. وما المانع أن تكون رديفة للتعبئة العامة التي شهدناها وما نزال، لمواجهة المد التكفيري – الارهابي في ساحة المعركة؟ قبل فترة تحدث اليّ شخص أن رائحة فساد تحسسها بقوة من داخل إحدى قاعات المحكمة عندما أصدر القاضي على لصّ سطى على أحد البيوت، ومع وجود الأدلة والشهود، فان الحكم كان؛ ستة أشهر مع وقف التنفيذ! ونقل نصّ كلام القاضي في نطقه للحكم على السارق: "...ولكن رأفةً به"!

نعم؛ من الجيد جداً ان نسمع بالمطالبات بعدم استقالة هذا "المسؤول" وذاك، وتخلصهم من المناصب الملوثة والمشبوهة والهروب بعيداً عن الساحة، والمطالبة بالاموال التي سُرقت وهُربت، فالحل الذي يتوقعه الشعب العراقي لأزماته ومحنته، ليس في المطالبة بتنحية وزير او رئيس، او حتى جميع نواب البرلمان ونواب مجالس المحافظات، فهذا بالحقيقة، تمثل هدية تقدم لهم، لقاء كل ما سرقوه – مع عدم إطلاق الحكم على الجميع- إنما في اجتثاث أصل الفساد من جذوره او على الاقل تحديده وتحجيمه. لنفترض تم فصل جميع نواب البرلمان ونواب مجالس المحافظات وتمت محاسبة بعض القضاة وغيرها من الاجراءات هنا وهناك، ما الضمانة في عدم ممارسة الفساد من النواب الجدد أو القضاة الجدد وغيرهم، اذا كانت هنالك أرضية مهيئة وقابلية على الفساد؟.

اضف تعليق