q

عندما يواصل الشعب تظاهراته في كل جمعه، على نحو متواصل منذ شهر تقريبا، ماذا يريد بالضبط، وما هي خفايا هذه المواجهة، ولماذا لا يكتفي بما أعلنته الحكومة من إصلاحات وإجراءات، على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي، هل ما يحدث بين الشعب والحكومة نوعا من المواجهة، يريد الشعب الضاغط أن يستثمرها من اجل تحقيق مكاسب أكثر على حساب الطرف الآخر؟، لاسيما أن البلد يخوض حربا شرسة ضد عصابات الإرهاب، يقول المراقبون أنها تستنزف ملايين الدولارات من خزينة الدولة على مدار الساعة؟.

وهناك تساؤل أهم بكثير مما تم طرحه من تساؤلات، الى أي حد يتوقف سقف المطالبات الشعبية، ومن يضمن أن الحكومة الحالية قادرة على الموازنة بين تحقيق مطالب المتظاهرين في الإصلاح ومحاربة الفساد من جهة، وتوفير القدرات القتالية اللازمة لصد وطرد عصابات داعش من الأرض العراقية المستباحة من جهة ثانية؟، إن الخطورة الكبيرة تكمن في عدم التقدير الصحيح لما يجري بين الطرفين من (مواجهة)، اذا جاز لنا تسميتها بهذا الاسم.

وعدم التقدير الصحيح لا نعني به الضغط المتواصل للمتظاهرين على الحكومة، وهي تدير حربا معقدة ترقى الى (حرب الاستنزاف) كما يصفها مراقبون، وإنما نعني به أيضا جدّية الإجراءات الحكومية في مكافحة الفساد والترهل الإداري، ومدى قدرتها على العمل الفوري المنظم لتحقيق ما يطالب به الشعب، لذلك نحن نرى أن حل هذه الإشكالية، لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تحقيق عنصر (التوازن) بين ما يطالب به المتظاهرون وبين قدرة الحكومة على تنفيذه، في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها البلد مرغما.

مصلحة البلاد أولا

إن غض الطرف عن ظروف البلد الراهنة وتعقيداتها لا يخدم أحدا، لأن الإصرار على الوصول الى الاهداف المرسومة، من دون ملاحظة الخسائر المتوقعة أمر لا ينتهي بنتائج طيبة ومضمونة للجميع، لذلك نحن ندعو الى الاحتكام الى مبدأ التوازن من لدن الطرفين، فإذا كان المطلوب من الحكومة ان تسعى (في التخطيط والتنفيذ) نحو تحقيق مطالب الشعب المهمة، وخاصة ما يتعلق بملاحقة الفساد والترهل الإداري، فإننا ينبغي أن لا ننسى مطالبة المتظاهرين بالركون الى مبدأ التوازن، في الخطوات التشريعية والإجرائية نحو هذه المطالبات.

وحتى نكون واضحين فيما يتعلق بهذا الأمر، ونكون بعيدين عن المزايدات التي لا يستفيد منها احد، نقول لا يجوز للحكومة أن تتلكأ باتخاذ الخطوات الإجرائية اللازمة لتحقيق مطالب الشعب المشروعة، وخاصة ما يتعلق بملاحقة ملفات المال المهدور وتحسين أداء مؤسسات الدولة، وتعويض خزينة المال عمّا فقدته نتيجة لإساءة استخدام هذا المال وإهداره في صفقات وهمية!، إن مثل هذه الإجراءات ليست مستحيلة، وإنها هي في الحقيقة تصب في صالح الحكومة، كونها تحتاج الى أموال إضافية كبيرة لكي تدير الحرب ضد داعش بنجاح.

كما أن ملاحقة الفساد بصورة جادة ومنهجية وعادلة، ستعود على خزينة الدولة بملايين بل مليارات الدولارات، كما أثبتت الجهود السريعة التي قامت بها الجهات القضائية المختصة (النزاهة)، وإن كان درب مكافحة الفساد واسترداد الأموال المهدورة لا يزال طويلا أمامها، إن هذه الإجراءات في مطاردة الفاسدين والمفسدين، فضلا عما قامت به رئاسة الوزراء ومجلس النواب من خطوات تتعلق بالترشيق، (اختصار المناصب الوزارية من 33 الى 22) مثلا، تدل على أن الحكومة جادة في عملها، وفي سيرها نحو تحقيق نتائج جيدة لصالح الشعب.

ولكن هل اقتنع المتظاهرون بهذه الخطوات الحكومية بملاحقة الفساد، والتعديلات الإدارية وما شابه؟؟، لا شك أن تواصل المظاهرات في كل جمعة دليل على أن الشعب لم يقتنع بعد بما قامت به الحكومة بدرجة كافية، ولعلنا نلاحظ ان جل المطالبات تتركز على الإجراءات الحكومية الفورية، فالشعب يريد أن يلمس لمس اليد نتائج هذه الإصلاحات، وكأنه يريد أن يراها بعينه حتى يطمئن، على الرغم من ان كثيرا من هذه المطالب تحتاج الى سقف زمني قد يمتد الى شهور، وهذا ما لا يروق للمتظاهرين المتعطشين الى النتائج الفورية.

الضغط الشعبي والأداء القتالي

ولكن ليس هناك مفر من اعتماد مبدأ التوازن بين الطرفين، ونعني بهما المتظاهرين والحكومة، فعندما يتمتع الشعب بحق التظاهر وحق الوصول الى نتائج عملية ملموسة تقوم بها الحكومة لتحقيق ما يريده الشعب، فإن مبدأ التوازن ومراعاة الظروف المعقدة التي يعيشها العراق اليوم، يستدعي الابتعاد عن التصلّب في المواقف، لاسيما أن هنالك أولويات ينبغي اعتمادها وعدم التفريط بها في أي حال، إذ لا يمكن أن نضغط على الحكومة أكثر من قدرتها على التحمّل، لأن هذا الضغط غير المدروس سوف يقلل من جودة أدائها في إدارة الحرب ضد داعش.

ولا يمكن أن نهمل هذا الاحتمال او الواقع، إذ لا يصح أن ننفي العلاقة بين الضغط الشعبي على الحكومة وبين تراجع الأداء القتالي في الجبهات المنتشرة بين الشمال والغرب في مساحات واسعة مترامية الأطراف، إن الشجاعة والخوف على العراق تتطلب منا أن نتكلم في هذا الخصوص بصوت عال، إذ لا يمكن أن نبني بيد ونهدم بالأخرى!، وهذا القول واضح المعنى لمن يريد أن يفهم، فمن يريد القضاء على داعش عليه أن يتعاون مع الحكومة، وهذا لا يعني غض الطرف عن الفساد وأصحابه، وإنما التعاون مع الحكومة على النجاح في محاربة (داعش الداخل وداعش الخارج)، لأن النجاح في محاربة (داعش الداخل/ الفساد)، والفشل في محاربة (داعش الخارج/ عصابات داعش القتالية)، يعني أننا نغامر بضياع العراق، وهذه النتيجة لا يرضاها الجميع، كذلك لا نقصد من هذا الكلام الكف عن الإصلاحات.

لذلك نحن ندعو هنا الى اعتماد مبدأ التوازن بين الطرفين المتقابليْن، الحكومة والمتظاهرين، اذا صح القول بأن ما يجري بينهما، هو نوع من المواجهة التي تهدف الى تحقيق نتائج تصب في صالح الطرفين، الشعب والحكومة، وهذا التوازن يدعو الشعب الى النظر نحو المخاطر الأمنية التي تهدد وجوده، وفي الوقت نفسه ينبغي أن لا يتحول الوضع القتالي ضد داعش كذريعة للإبطاء في محاربة الفساد ومن يقف وراءه.

وخلاصة القول، نحن كعراقيين نحتاج الى نوع من الثقة العميقة بين الحكومة والشعب، هدفها أن يعمل الطرفان لخدمة العراق، وسوف يتحقق هذا الهدف، عندما يقتنع الشعب أن زمن الفساد قد ولّى، وان الفاسدين مهما فعلوا لا يمكن أن يفلتوا من الحساب، ولكن هذه النتيجة، لا يمكن أن تتحقق من دون إجراءات حكومية عملية منظَّمة متواصلة ورادعة، حتى لو استغرقت بعض الوقت، فالمهم هنا هو وضع برنامج بعيد المدى لمكافحة الفساد والقضاء عليه بصورة كليّة.

اضف تعليق