q

كانت العصور الوسطى في اوربا تخضع في نظامها الاجتماعي ومن ثم السياسي الى تراتبية شديدة في نظام الطبقات، وكان على قمة هذه الطبقات يكون الملك باعتباره رأس الدولة ثم تليه طبقة النبلاء والامراء وطبقة رجال الدين (الاكليروس) ومن ثم قادة الجيش.

وتكون طبقات او فئات الشعب في ادنى درجات هذا السلم الاجتماعي التراتبي، وسمتها انها لا تملك شئيا من الحقوق فضلاً عن الامتيازات التي تكون موزعة حصراً على اصحاب الطبقات العليا في المجتمع، ووفق ما تمنحه النظم السياسية الملكية من حقوق الشرف وقائمة الامتيازات.

والقاسم المشترك بين هذه الطبقات هو انها تملك السلطة ولها حق الحكم والادارة في البلاد، وكان في الغالب يقابل هذه الطبقات وبشكل سلبي من حيث الحرمان من الحقوق فضلاَ عن الامتيازات، هم الفلاحون والمزارعون في الارض الذين حولتهم هذه النظم السياسية في تلك العصور الى اقنان او عبيد هم واسرهم بيد طبقة النبلاء من الاقطاعيين ومالكي الارض.

لكن نشأت وفي مرحلة لاحقة في هذه العصور طبقة وسطى من التجار واصحاب الحرف في المدينة. وسطى في وضعها الاقتصادي، فهي مكونة من اصحاب الملكيات الصغرى والرأسماليات الناشئة، ثم هي وسطى من حيث وضعها الاجتماعي التراتبي فهي في مواقعها الاجتماعية بين الطبقات العليا في اعلى هرم الدولة وطبقات الفلاحين في ادنى هذا الهرم.

وبطبيعة النشأة الاقتصادية المبكرة لها والمتطورة ايضاَ بفعل الدور الذي كانت تمارسه في الصناعات الحرفية وامتلاكها التجارة ووسائلها، مهد لها تطورات مهمة في حقل المال والاقتصاد، فانعكس على وضعها وموقعها الاجتماعي، ونشأت على اثر ذلك مطالب سياسية خاصة بهذه الطبقة الوسطى، وتكونت لديها اهداف تعبر عن حالة الوضع الخاص بها والناشئ حديثاً، وكان في بدايتها هو ضرورة ممارسة نشاطات سياسية كانت من قبل محرمة عليها وخاصة بالطبقات العليا، وكانت تلك النشاطات السياسية تعبير ايضاَ عن مصالح هذه الطبقة الوسطى، وقد الجأتها تلك المصالح بفعل ضروراتها على اتخاذ قرارات وكانت تشكل خرقا واضحا في ثقافة ذلك العصر السياسية والاجتماعية.

فقد كان بإمكان هؤلاء ان يكونوا تجاراَ ولكن لا يمكن الاعتراف بهم كنبلاء من قبل الانظمة الملكية، فهم يبقون في اطارهم الاجتماعي ضمن تراتبية الطبقات الدنيا، لكن وضعهم المالي صار يمهد لهم الامساك بالقرار ومن ثم بالسلطة. اذاَ فالحاجة الى التعبير عن المصالح المادية والمواقع الاجتماعية الناشئة صار يفرض ضرورة حرية التعبير، وقبل ذلك كان يفرض ضرورة حرية العمل والاقتصاد، هذه الضرورات هي التي كانت تؤسس تاريخاَ لليبرالية.

فقد أصبحت الطبقة الوسطى ووفق تك الضرورات بحاجة الى التعبير عن هويتها ومصالحها، وهو ما يفرض ايضا ضرورة الانتقال للطبقة الوسطى الى اوضاع اجتماعية وسياسية جديدة فأصحبت والحالة هذه في صراع دائم مع التقاليد القديمة في السياسة والاجتماع وطبيعة الاقتصاد السائد قديماَ، ومن ثم دعت الى ضرورة تشكيل تقاليد جديدة في سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي نهضت بها الطبقة الوسطى ومن كان يمثلها من البرجوازين وصغار الملاكين الزراعيين والحرفيين.

واذا كانت الحريات التي نادت بها الطبقة الوسطى تفرضها المصالح الاقتصادية والشخصية لهذه الطبقة، فانها في مرحلة لاحقة صارت تفرضها الحاجة الانسانية الحضارية وصار التوسع في مجال الحريات يتناسب طرديا والتطورات الحضارية الحديثة حتى مست احيانا صميم قيم انسانية لايمكن التخلي عنها. ومن هنا برز مفهوم ان الحرية مسؤولية وليست فوضى اجتماعية، وقد عالجتها اللبرالية بمقولة توقف الحرية عند حدود الاخرين.

وهكذا فاللبرالية وفي تاريخها على حد وصف استيفن ديلو و تيموثي ديل (تاريخ من توسيع الحريات وتاريخ من الحاجة الى توسيع تغطية الحقوق لأولئك الذين يفتقدونها). فقد صار للمرء في ظل دعوات الليبرالية الاولى الحق في اختيار المهنة والحق في اختيار المعتقد وجدول من الحريات الفردية المتعددة، وقد تطورت تلك البدايات الاولى لليبرالية واستناداً اليها الى تطوير عدد من القيم لازالت فاعلة ومؤثرة في النظم الديمقراطية والليبرالية ومن اهمها:

قيمة الاستقلال، فقد صار للمرء ان يتخذ قرارات خاصة بحياته بمعزل عن الجماعة. ثم قيمة الخصوصية، وهي تتأسس على قيمة الاستقلال وتشكل مجال المرء الخاص به ويكون خارج منال الاخرين. وهناك قيمة التكافؤ، التي تمد جميع المواطنين بحقوق متساوية، وتشكل قيمة التكافؤ دعامة مهمة لقيم الاستقلال والخصوصية، كما تمثل وبنفس الوقت نهاية عصر او عصور التراتبيات الاجتماعية التقليدية.

ان قيمة الاستقلالية الفردية والخصوصية الذاتية والتكافؤ المجتمعية تشكل وفق مفهوم الليبرالية اركان الصالح العام الذي يحمل ثيمته تاريخياً واستنتاجاً عن هوبز، هي مصالح الطبقة البرجوازية او هذه الطبقة المتوسطة وتوكيداَ على علاقتها تاريخياً وليس ماهوياً بالصالح العام. يعتبرها الفيلسوف الالماني كانط والبريطاني هوبز، الجيش الدائم للحرية.

هذه الحرية التي يتبلور فيها الصالح العام وفق تنظيرات الليبراليين الاوائل لوك وكانط وهوبز، رغم ان هذه الطبقة في نظر جان جاك روسو مهتمة بالإشباع الذاتي المادي ومصدر في تقويض الجماعة، وعند ماركس اساس الطبيعة المتوحشة للرأسمالية، وعند نيتشه اساس التفكير المنقاد مثل القطيع. لكن هذه القيم الثلاث الاستقلال والخصوصية والتكافؤ من باب أهم هي تعبير عن الحاجة الانسانية الحضارية للحريات، وقد فرضت الحاجة الانسانية الحضارية وبواسطة مفهوم الحريات متصلا بالحضارية شكلا ومضمونا جديدا للإنسان منحته القدرة على تكوين هويته ثقافيا وانسانيا..

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق