q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

التخطيط المستقبلي وصناعة الأمة المتفوقة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لماذا على الإنسان معرفة المستقبل؟، ليس الهدف من ذلك تحاشي الصدمات فقط، رغم أن تحاشيها أمر مهم جدا، ولكن هناك سبب آخر يستوجب من المعنيين معرفة المستقبل بكل تفاصيله وأجزائه، لكي يكون التخطيط دقيق وناجحا، فمن دون معرفة جيدة للمستقبل، لا يمكن التخطيط بشكل جيد لبنائه بطريقة محنّكة...

(إن صدمة المستقبل لا رادّ لها، إذا لم نستعد لها، ونتحدى آثارها الوخيمة) الإمام الشيرازي

معرفة المستقبل من الأركان المهمة للأمة التي تريد أن تضمن مستقبلا قويا مستقرا ومتميزا، وهذا الركن المستقبلي لا يمكن تحقيقه من دون توفير الركن الأهم وهو التخطيط لبناء المستقبل، إذا تتوقف قضية النهوض المستقبلي للأمة على ركنين أساسين، وكلاهما يدعم الآخر، فهما متداخلان متعاضدان، أحدهما يمهد سبل النجاح للآخر.

لماذا علينا قراءة المستقبل جيدا، سؤال يُطرح دائما على من يهمهم الأمر، الجواب إن المستقبل بكل أحداثه يختفي في بطون الغيب، ومن لا يدرسه بدقة ويقرأه بمهارة وعلمية، فإنه سوف يكون عرضة للمفاجآت الكثيرة النائمة في أعماق المستقبل، فمن يترك مستقبله بلا رصد ولا تحليل ولا معرفة معمّمة، فإنه يغامر بمواجهة الصدمات غير المحسوبة، وقد يكون بعضها يهدد مصير الأمة، لذا وجب معرفة وقراءة المستقبل للسيطرة على مفاجآته.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):

(إن معرفة المستقبل بشكل عام أمر واجب، والتخطيط له واجب آخر؛ لأنهما (المعرفة و التخطيط) مقدمة الواجب، وبهما يتم تحقيق أغراض المولى جل وعلا الملزمة، وهذه تُعد أول خطوة في هذا الاتجاه).

لماذا على الإنسان معرفة المستقبل؟، ليس الهدف من ذلك تحاشي الصدمات فقط، رغم أن تحاشيها أمر مهم جدا، ولكن هناك سبب آخر يستوجب من المعنيين معرفة المستقبل بكل تفاصيله وأجزائه، لكي يكون التخطيط دقيق وناجحا، فمن دون معرفة جيدة للمستقبل، لا يمكن التخطيط بشكل جيد لبنائه بطريقة محنّكة.

كذلك إذا لم يكن الإنسان قادرا على التخطيط للمستقبل بسبب عدم معرفة تفاصيله وأجزائه، فهو سيكون عاجزا عن إيجاد الحلول التي يواجهها المجتمع والدولة، فالحلول مرتبطة بالتخطيط بشكل وثيق، وعدم دقة التخطيط أو الفشل فيه، تعني استحالة العثور على الحلول المستقبلية اللازمة، وبالتالي قد نكون عرضة للسقوط في مستقبل غير مخطَّط له بطريقة علمية رصينة ودقيقة وناجحة ومطمئنة أيضا.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(لابد من معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه وجزئياته، فمن دون المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يُحسن التخطيط للمستقبل، ومن دون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب المستقبل سقوطه).

هذا النوع من التخطيط المستقبلي لا يخص المجتمع وحده، فهو يخص الأفراد أيضا، فكل فرد له مستقبله الخاص، وعليه أن يبني مستقبله بطريقة واثقة وناجحة، وهو حق من حقوق الأفراد المتطلعين إلى النجاح، ليس حق فحسب وإنما قد يصل إلى مرتبة الوجوب، فالإنسان الفرد الذي يترك مسيرته الحياتية على الغارب، وتمضي بلا ثوابت ولا خريطة عمل جيد يسير عليها في رحلته الحياتية، فإنه سوف يكون عرضة للسقوط والفشل.

الفرد والقراءة المستقبلية السليمة

من هنا يجب على الفرد أن يقرأ مستقبله بدقة، وعليه أن يعرفه تمام المعرفة، فالإنسان الذي يتنبأ بصورة جيدة ما قد يحدث له مستقبليا، يكون أكثر من غيره قدرة على التعامل مع المعرقلات، وسوف يكون قادرا على أن يحتاط من الصدمات والمفاجآت التي تنبّأ بها مسبقا، أما في حال أهمل ذلك، ولم يعبأ بدراسة تفاصيل وخفايا المستقبل فإنه سوف يكون مهدَّدا بوابلٍ من الاحتمالات المستقبلية التي قد تكون نتائجها قاسية عليه.

هذا ما أكد عليه الإمام الشيرازي حين قال:

(إن الأمثلة كثيرة عن ذلك، فالإنسان الذي يتنبأ بأوضاعه الاقتصادية في المستقبل، إذا استطاع أن يستشف المستقبل ويقرأ آفاقه بصورة جيدة، فإنه سيأخذ الحيطة والحذر في ذلك، وإلاّ فإنّ كارثة مّا ستحلّ عليه، ويخسر كلّ شيء في صفقة الزمن المملوء بالاحتمالات).

وهناك مثال واقعي يأتي به الإمام الشيرازي من حياة الناس والدول ومن واقعهم، وهو ما نعيشه الآن سواء على مستوى الكرة الأرضية والبشرية، أو على مستوى العراق، وهذه القضية تتعلق بالجفاف الذي ضرب العالم كله بسبب تغيّرات المناخ، مما تسبب بموجات قاتلة من الجفاف ضربت دولا ومناطق عديدة في العالم ومن بينها العراق.

فالأمم التي أهملت هذه القضية، ولم تتنبأ بشحة المياه التي ستضربها مستقبلا (كما يحدث اليوم)، فإنها باتت عرضة لمخاطر جسيمة على أثر هذه الشحة الخطيرة للماء، ولو أنها كانت قد بادرت إلى دراسة هذه المعضلة مستقبليا، أي قبل نصف قرن أو قبل عقود من الآن، لكانت المشكلة أقل ضررا على الدول التي ضربها الجفاف.

أما الدول التي تنبّأت بهذه الشحة، وتوقعت حدوثها قبل عقود من الآن، فإنها اتخذت الاحتياطات اللازمة، وبادرت بالإجراءات التي تخفف أو تقلل أو تحمي الدولة من الجفاف كباء السدود والبحيرات والحفاظ على مياه الأمطار وغيرها من الحلول التي حمت هذه الدول من موجة الجفاف التي تعصف بكوكبنا بسبب التغير المناخي والاحتباس الحراري.

يقول الإمام الشيرازي:

إن (الأمم التي لا تتمكن من التنبؤ بمستقبل شِحة المياه، فإنّها ستعاني من الجفاف وقلة الزرع وكثرة الأمراض، وربما الحروب الناتجة عن ذلك، وربما أودى ذلك إلى سقوط الدولة وهلاك الشعب. بينما من تنبأ بالمستقبل فإنه يستعد لذلك الخَطر، ويقوم بتخزين المياه، وترشيد صرفها حتى إذا جاء الصيف لم يضرّه شيء).

كيف تغادر الأمم حالة الركود؟

إن الأمة والدولة التي تدرس المستقبل وأحداثه قبل وقوعها، هي التي تنجو مما سيحدث لاحقا، وهذه الدول توصف بأنها في حالة سباق مستمر مع الزمن، وهي دول ليست راكدة ولا جامدة، بفضل حكوماتها وصناع القرار وبفضل وعي المجتمع الذي يُسهم في التهيئة لمواجهة كوارث المستقبل المتوقَّعة.

وهذا ما يجب أن تكون عليه جميع الدول، أي أن الدولة ونخب المجتمع وصناع القرار يجب أن يرتقوا إلى مسؤولية مواجهة كوارث المستقبل، بمعرفتها مسبقا والتنبّؤ بها ومن ثم إيجاد الحلول له والتخطيط الدقيق للقيام بالخطوات الإجرائية اللازمة.

لذلك يقول الإمام الشيرازي:

(من هنا كان الذي يعي المستقبل ويخطط له يعيش في راحة، حتى لو حلّت الكارثة؛ لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع لكل احتمالٍ حلاً. فهو متطلع دائماً للزمن القادم، ممّا سيجعله في سباق مع الزمن وفي تقدم مستمر).

هناك من بين البشر لا يريد أن يحمي نفسه مما يحمل لهم المستقبل من ويلات ومشكلات، وهؤلاء غالبا ما يعزلون أنفسهم عن التفكير المستقبلي، وهم بذلك يضعون أنفسهم وجها لوجه أمام مخاطر المستقبل، كونهم ترفّعوا عن التفكير بالمستقبل، وقيّدوا عقولهم ومصالحهم بالوضع الآني، هؤلاء هم قصار النظر، وبصائرهم عاطلة عن العمل، لذلك هم محارق المستقبل، لأنهم لم يخططوا ولم يعرفوا ماهيّة مستقبلهم.

الإمام الشيرازي يؤكد ذلك حين يقول:

(إن الإنسان الذي يتطلّع إلى ما قد سيحدث له في المستقبل، ويُميّز الأخطار، ويميز الفرص المواتية، سيأمن جانبه، وسيبعد عن نفسه الأخطار المهلكة وسيستفيد من الفرص التي تتاح له. أما أولئك الصنف من الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير بالمستقبل، فإنهم عادة ما سيصبحون مَحرَقَةً للأحداث القادمة).

في النهاية لابد من الاعتراف بأن معرفة المستقبل تؤدي إلى التخطيط الصحيح، وهذا البند بدوره يؤدي إلى إيجاد الحلول الصحيحة لمعالجة المشكلات المستقبلية، لذا علينا كأمة واعية الغوص في مجاهيل المستقبل، ومعرفة تفاصيله، والتنبّؤ الدقيق بما قد يحمله لنا من مشكلات ومفاجآت حتى لا نكون عرضة للخطر المباشر، وهذه من صفات الأمم المتفوقة القادرة على التعامل مع المستقبل بعقلية الحاضر المستقر المتفتح البصير.

اضف تعليق