q

على مدى نصف قرن من تأريخ العراق المعاصر، أو الحديث، يكافح الشعب العراقي كي لا يجوع أكثر!!، بينما الشعوب الأخرى، (ومنها شعوب في دول بلا موارد)، تجاوزت تحقيق الاكتفاء الذاتي، وصارت من الدول المصدّرة للسلع الغذائية والإنتاجية كافة، فيما كل ما يطمح إليه الشعب العراقي (منذ عقود وحتى اللحظة)، أن لا تسوء درجة الجوع أكثر مما هي عليه، تُرى من يعمل على تجويع هذا الشعب العريق؟؟ وكيف تتم صناعة الجوع هنا؟ وما هي الأطراف التي تشترك في هذه الجريمة؟!.

وهل تستحق صناعة الجوع في العراق هذا التوصيف؟؟ أي هل يحق لنا بأن نصفها بـ (الجريمة)؟!، الجواب نعم بكل تأكيد، فصناعة الجوع في هذا البلد، قتلت مئات الآلاف وربما الملايين بسبب سوء التغذي وانتشار الأمراض وعدم القدرة على التطبّب، وهذا الموت الذي أسهم في إزهاق أرواح كثيرة من العراقيين، بمثابة الجريمة المدبَّرة، نعم إنك عندما تخطط لقتل شخص ما، فهذه جريمة قتل مع سبق الإصرار!!!.

ترى من يقف وراء قتل العراقيين؟؟ من خلال صناعة الجوع فيه، وإضعافه، ونشر الفوضى فيه، ومنعه من النهوض ليصبح دولة مزدهرة متقدمة يعيش شعبها بكرامة، علما أن جميع مقومات الدولة القوية متوافرة في هذا العراق، فمن يمنعه من تحقيق هذا الهدف الانساني المشروع، ومن يقف وراء صناعة الجوع لتدمير العراق والعراقيين، وما هي الأساليب التي اتّبعوها ولا زالوا يتبعونها حتى هذه اللحظة لتحقيق هذا المأرب الذي يرقى لمستوى الجريمة، ألا وهي جريمة (الإبادة الجماعية)!!.

موت الزراعة والصناعة

إن الدول والقوى الإقليمية والدولية التي تشترك في صناعة تجويع العراقيين، معروفة، فهي الدول التي صنعت الفوضى في العراق، وهي الدول والقوى التي اشترك في جعل العراق دولة ضعيفة، لا يعمل فيها القانون ولا القضاء، وليست فيه مؤسسات قوية، كذلك عملت هذه الأطراف على تدمير قطاع الكهرباء، ونشر الفساد في البلاد، وخاصة في القضاء وفي قطاع الكهرباء، وبسبب ذلك، أقفلت آلاف المعامل الصغيرة والكبيرة أبوابها وسرحت عمالها.

وبسبب هذه القوى والدول الإقليمية وسواها، ماتت الزراعة في العراق، فقد تفننت الدول المجاورة في صناعة الجوع بهذا البلد، من خلال منع الماء من الوصول الى الأراضي العراقية، بل بعض الدول غيّرت مجرى الأنهار لتصب في أراضيها، وأخرى قللت اطلاقات الماء في الأنهار العراقية، مما أدى الى تدمير آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في وسط وجنوب وشمال العراق، وعندما تتوقف الصناعة والزراعة في بلد زراعي أصلا، وفيه صناعة جيدة ومعامل ضخمة، نستطيع أن نتصور ماذا يحدث لشعبه!.

لقد تحوّل العراق بسبب سياسة التجويع التي تشنها بعض الدول المجاورة للعراق، والقوى العالمية المعادية لشعبه، الى سوق كبيرة لهذه الدول والشركات وسواها، ممن وجد في العراق (كعكة) يظن أن له حصة فيها، بل يذهب كثيرون (سياسيون رسميون يقودون دولا)، الى اعتبار ثروة العراق ليست للعراقيين؟؟!! مع أنهم ودولهم يمتلكون أكثر من شعب العراق، ومع ذلك يطمعون بخيرات هذا البلد، فيعمدون الى سياسة تدميرية لمؤسساته واقتصاده وصناعته وزراعته، وأمنه، ليحققوا بالنتيجة الهدف الأول لهم، ألا وهو جعل العراقيين يعيشون تحت خط الفقر.. باستثناء الطبقة الحاكمة!!.

بمعنى أن الهدف لهذه الدول والقوى المتشابهة معها في الأهداف، جعل الشعب العراقي جائعا مهدّدا في أمنه ومأكله وثروته، وجعل الدولة العراقية ضعيفة تعيث فيها الفوضى فسادا، ولا قانون يحكمها، وقد حرصت هذه الدول فعلا، على جعل العراق بهذه المواصفات، حتى يسهل لها السيطرة عليه سياسيا واقتصاديا، من دون أي وازع إنساني او أخلاقي أو ديني.

المسؤولية الأخلاقية لأمريكا

فأمريكا مثلا هي المسؤول الأول أخلاقيا عن جوع العراقيين وموتهم وقتلهم المنظَّم، كونها بعد أن حققتْ أهدافها بالقضاء على الدكتاتورية، تخلّت عن الشعب العراقي، فتركته نهبا للموت والإرهاب والاحتراب، بل أنها سمحت (من خلال صفقات سرية ومعلنة) لدول أخرى أن تتدخل بالشأن العراقي وتتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي له.

وغضّت الطرف عن قوى مخابراتية عالمية عاثت فسادا في العراق، كي تضع شعبه على احتكاك دائم مع الجوع، لدرجة أن هذا الشعب لا يزال يكافح من اجل الحد من تفاقم مستوى الفقر الذي بات يهدد الملايين يوما بعد آخر، في حين تخلّت عن مسؤوليتها، بل أسهمت في صناعة الموت والجوع في هذا البلد، على الرغم من ادعاءاتها عكس ذلك، ولكن ما جرى في الواقع المرئي والملموس، أنها باعت العراق للعصابات والمافيات، وهربت بجيشها خارج العراق، تاركة الفوضى تسود كل أراضيه ومؤسساته!!.

والآن بعد أكثر من عقد على التحولات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية، وبداية عهد (ديمقراطي) كان يشكل أعظم أمل للعراقيين في تعويضهم عن عقود الحرمان والبطش والجوع، استيقظ العراقيون من غفلتهم (ومن نومة أهل الكهف)، ليجدوا الفساد ينخر في دولتهم وجسدهم، ويحاصرهم الجوع من كل حدب وصوب، ويفتك بهم الموت بكل أشكاله، في الداخل والخارج، فالموت بسبب الإرهاب يطولهم في كل لحظة وفي كل مكان داخل بلدهم بسبب ضعف الأجهزة الاستخبارية، وحتى الذين يهربون منه الى المنافي، سرعان ما يصبحون طعاما لحيتان البحار وصفقات التهريب، فيما بات الشعب كله لقمة سائغة لحيتان الفساد في الداخل.

وبعد كل هذا، ماذا سيخسر العراقيون عندما ينتفضون على الموت الذي يحاصرهم، وما الذي ينتظرونه للقضاء على صناعة الجوع ومن يقف وراءها في الداخل والخارج؟، إن المؤشرات التي بات يفرزها الواقع، كلها تؤكد أن (المارد) خرج من قمقمه، وأن القضاء على أسباب ومسببي الفساد صار هدفا للجميع، وأن صنّاع الجوع لم يعد لهم مكانا في العراق، إلا إذا تغيّرت سياساتهم وفق الوعي العراقي الجديد.

اضف تعليق