q

تعد حرية التظاهر من أجلى صور التعبير عن الرأي وممارسة حرية الفكر والضمير على أرض الواقع، ويتم ذلك باجتماع الأفراد في محل معين بشكل عفوي أو منظم سلفاً للتعبير عن اراءهم وتوجهاتهم وللإفصاح عما يختلج انفسهم، وهذا الاجتماع العلني يقف وراءه قصد ودافع سياسي أو اقتصادي أو ربما ديني سواء أكان وطنياً، قومياً أم انسانياً وقد يكون غير ذلك، ويحصل الاجتماع في محل عام أو خاص لينطلق الأفراد إلى ساحات والطرق العامة وباتجاه أبنية الحكومة، ولربما بنيت السرادق أو نصبت المنصات وفي أحيان أخرى تكون المظاهرة عبارة عن مسيرة حاشدة من الناس يرفعون الأعلام ويرددون بعض العبارات، والاصل فيها ان تسير وفق برنامج معد مسبقاً وبشكل سلمي، وعلى السلطات العامة في العراق لاسيما الأجهزة الأمنية أن تتعامل مع المتظاهرين ومطاليبهم بشكل حضاري وان تتفاعل السلطات كافة معها كونها تعبر عن توجهات الرأي العام، ومن الثابت ان الدول التي تبيح حرية التظاهر وتمنح مواطنيها مساحة للتعبير عن اراءهم هي الدول التي تعتنق المذهب الديمقراطي ويؤمن الحكام فيها بأن الشعب مصدر السلطة وهو من يمنح السلطات العامة الشرعية في أعمالها اليومية.

ولحرية التظاهر تنظيم قانوني في العراق ورد في الوثائق الدستورية المتعاقبة فعلى سبيل المثال أورد دستور العراق لعام 1970 نص المادة (26) والتي جاء فيها/يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر السلمي وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات..)، بيد أن الملاحظ على هذه المادة الدستورية إنها كانت معطلة في عهد النظام السابق واقتصر الأمر على الخروج بتظاهرات دورية ينظمها الحزب الحاكم آنذاك لحشد الدعم للقضايا الوطنية والقومية التي يتبناها، بل ان حرية التظاهر كانت تعد جريمة وفق قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 إذ ورد في المادة (220) يعد جريمة تجمهر خمسة أشخاص في محل عام فان صدر أمر من السلطات لهم بالتفرق ولم يمتثلوا يعاقبون بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبالغرامة أو بإحداهما كما أن المادة (221) عاقبت بالحبس والغرامة كل من دعا إلى تجمهر في محل عام.

وبعد التغيير السياسي عام 2003 في العراق صدرت وثيقتان دستوريتان الأولى هي قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 الذي تضمن نصاً في غاية الوضوح يبيح حرية التظاهر للشعب العراقي إذ قضت المادة (13/ هـ- للعراقي الحق بالتظاهر والاضراب سلمياً وفقاً للقانون) وبهذا نجد أن المشرع الدستوري خطى إلى الأمام خطوة مهمة بان عّد التظاهر حق وليس مجرد حرية أي أنه مصلحة محمية بالقانون والدستور لتعلقها بالشعب وتطلعاته ومستقبله، ولم يقيد حق التظاهر إلا أن يتم وفق القانون، وقد سبق هذا النص الدستوري تنظيم حرية التظاهر بموجب الأمر رقم (19) لسنة 2003 المعنون (بحرية التجمع) والذي لايزال سارياً حتى اليوم والصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة السفير بريمر، إذ ورد في القسم (1) منه ان الحظر المفروض على حرية التجمع في قانون العقوبات العراقي يتعارض مع التزامات العراق تجاه حقوق الأنسان، وورد بالقسم (3) أنه يحظر قانوناً على أي شخص أو مجموعة أو منظمة تسيير مسيرة أو تنظيم تجمع أو اجتماع أو تجمهر... إلا إذا كان هذا النشاط يتم بموجب تصريح من الحكومة العراقية ممثلة اليوم برؤساء الوحدات الإدارية وقد وضع الأمر محل البحث شروطاً صارمة تتلخص بالآتي (أن يكون التجمهر محددا بالأعداد التي لا تعرقل حركة المشاة وسير المركبات، ويحظر الاجتماع والتجمهر في الطرق والشوارع العامة أو في الأماكن العامة الذي يستمر أكثر من أربع ساعات، ويحظر التجمهر قرب مرافق سلطات التحالف والسفارات الأجنبية وأن لا يتم التجمهر في أوقات الذروة في سير المركبات من الساعة (7.30-9) صباحاً ومن (4.30-6) بعد الظهر من السبت حتى الخميس) وفي هذه القيود مصادرة للحق بالتظاهر والتجمع الذي جاء هذا الأمر التشريعي ليكفله للمواطن العراقي، ما يستدعي تدخل البرلمان العراقي لإلغاء الأمر رقم (19) كونه يتنافى مع أبسط مبادئ حقوق الأنسان، إلا أن مما يذكر أن الأمر محل البحث جاء ببعض النقاط الايجابية وعلى رأسها إباحة حق التظاهر والتجمع وإلغاء المادتين (220-221) من قانون العقوبات العراقي.

ثم بعد ذلك صدرت الوثيقة الدستورية الثانية في العراق عقب التغيير السياسي عام 2003 وهي دستور جمهورية العراق لعام 2005 الذي كفل حق التظاهر في المادة (38) منه وجاءت صياغتها بالشكل الآتي ((تكفل الدولة بما لايخل بالنظام العام والآداب العامة... حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل...، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون)).

ولكون النص الدستوري ختم بعبارة تنظم بقانون بادرت الحكومة العراقية إلى وضع مسودة قانون سمي "قانون حرية التعبير عن الرأي والتجمع والتظاهر" وهو اليوم في اروقة مجلس النواب بعد أن تمت قراءته قراءة أولى، والمتتبع لمراحل وضع المشروع وفقراته يجد أن هنالك محاولة جادة من الحكومة العراقية السابقة التي وضعت أسس المشروع لتكبيل حرية التظاهر، بل أن المشروع بصياغته الأخيرة مخالف لنصوص الدستور ويعد انتهاك للحقوق والحريات التي ضمنتها شرائع الارض والسماء، وفيه قتل لجوهر الحرية، وقد سجلنا عليه جملة من الملاحظات من أهمها ما يأتي:-

1- ورد في المادة الأولى من المشروع (حرية التعبير عن الرأي هي حرية المواطن في التعبير عن أفكاره بالقول والكتابة والتصوير أو بأي وسيلة أخرى)، والسير في هذا الاتجاه التشريعي أمر خطير كون المشروع يكفل حرية المواطن فقط فماذا عن حرية المقيمين في العراق من العرب أو الاجانب، وماذا عن حرية الأشخاص المعنوية كالمنظمات غير الحكومية (مؤسسات المجتمع المدني) والمؤسسات الاعلامية مالكة الصحف والقنوات التلفزيونية وغيرها..، ثم ذهب المشرع ليعدد صور التعبير "بالقول والكتابة والتصوير ثم يردف أو باي وسيلة أخرى" وهذا اسلوب بناء قانوني منتقد كون العبارة الأخيرة تستغرق الأولى ولا حاجة للتمثيل.

2- عرفت المادة الأولى التظاهر السلمي بانه "تجمع عدد غير محدود من المواطنين للتعبير عن أراءهم أو المطالبة بحقوقهم التي كفلها القانون التي تنظم وتسير في الطرق والساحات العامة" وبدورنا نتفق مع عبارة للتعبير عن أراءهم والمطالبة بحقوقهم على ان ترفع عبارة التي كفلها القانون فهي عبارة تدعو للشك والريبة وتفسيرها مستقبلاً يهدد حرية التظاهر، فأي قانون نقصد مطلق القانون بما فيه الدستور، أم القانون المشرع بواسطة البرلمان فقط، وما حكم المعاهدات والمواثيق الدولية التي كفلت الحقوق والحريات، كما ان المظاهرة أحياناً تنطلق وهدفها إلغاء قانون معين أو قد تستهدف المظاهرة إلغاء أو تعديل الدستور نفسه.

3- كررت المادة (10) في تعريفها لحرية التظاهر ما ورد بالمادة الأولى وهو منهج تشريعي منتقد.

4- وضعت المادة (10) شروطاً لتظاهرة (بان لا يجوز تنظيمها قبل السابعة صباحاً أو بعد العاشرة ليلاً، ضرورة الحصول على اذن مسبق من رئيس الوحدة الادارية "محافظ، قائممقام أو مدير ناحية" قبل خمسة أيام في الأقل وأن يتضمن طلب الاذن موضوع التظاهرة والغرض منها وزمان ومكان انطلاقها وأسماء أعضاء اللجنة المنظمة لها)، وبهذه الاجراءات المعقدة يمكننا القول أن حرية التظاهر ستكون من الماضي فقط فالدستور لم يقيد الحريات إلا بما يخالف النظام العام والآداب العامة والحكومة بمشروعها تريد ان تربط الحرية بقرار منها ممثلاً بقرار رئيس الوحدة الإدارية والذي يعد جزء لا يتجزأ من الحكومة الاتحادية وينفذ توجهاتها حسب نص المادة (31) من قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 التي نصت على أن من صلاحيات المحافظ تنفيذ السياسة العامة للحكومة الاتحادية في حدود المحافظة، ثم لماذا هذه التوقيتات؟ ولماذا الحصول على إذن؟ وماذا لو كانت المظاهرة ضد المحافظ نفسه؟ هل سيأذن بخروجها؟، ولماذا قبل خمسة أيام؟ هل تقصد الحكومة امتصاص غضب الشارع خلال هذه المدة وتمويع مطاليبهم بالوعود الزائفة والاصلاحات الصورية والحلول الترقيعية.

5- ورد بالمادة (7/ ثالثاً) من المشروع أنه في حال رفض رئيس الوحدة الإدارية طلب المظاهرة يمكن للجنة المنظمة الطعن بقرار الرفض أمام محكمة البداءة المختصة، ونرى في الأمر جهل بالقانون مركب فالمختص بنظر القرارات الإدارية في العراق هي محكمة القضاء الإداري وليست محكمة البداءة التي تعد محكمة مدنية، ثم أن الطعن سيأخذ وقتاً طويلاً فما الطائل بعد شهر أو شهرين من مظاهرة ضد غياب الخدمات التي ستتوفر وقت الفصل في الدعوى فتحكم المحكمة بردها لتخلف موضوع الدعوى وزوال المصلحة من نظرها.

6- ورد بالقانون إلغاء الأمر رقم (19) ولم يشر المشرع إلى الابقاء أو إلغاء المواد (220-221) من قانون العقوبات ما يعني انها ستعود للحياة وكل المتظاهرين يمكن أن يحاكموا بموجب هذه المواد التي تكبل حريتهم، بل أن المادة (14) من المشروع تنص صراحة على تطبيق أحكام قانون العقوبات في كل ما لم يرد فيه نص.

7- نصت المادة (9) على حظر الاجتماعات العامة في أماكن العبادة، وفي ذلك محاولة لتحييد أهم الاماكن لتكوين الرأي العام المناهض للفساد الإداري والمالي والمطالب بالإصلاح، ومحاولة لعزل رجال الدين عن عامة الشعب وهو دليل تخوف الحكومة منهم فلو كان الأمر اجتماع انتخابي لحق للمشرع تحريمه اما اجتماع في محل عبادة فما الضير من ذلك بان يجتمع الناس في المساجد أو الاضرحة المقدسة.

من كل ما تقدم نجد ان مشروع القانون المتعلق بحرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر مخالف للدستور والمنطق القانوني السليم للأسباب الآتية:

1- نصت المادة الثانية من دستور جمهورية العراق لعام 2005 على منع تشريع أي قانون مخالف للحقوق والحريات الواردة في الدستور.

2- نصت المادة السادسة والأربعون من دستور جمهورية العراق على جواز تنظيم الحقوق والحريات بقانون أو بناءً على قانون شرط ان لا يؤدي ذلك إلى مصادرة أصل الحق أو الحرية في حين المشروع الذي بين أيدينا ينتهك حرية التعبير والتظاهر جهاراً نهاراً.

3- ان المادة (38) لم تقيد حرية التظاهر إلا بعدم التعارض مع النظام العام والآداب ولم تضع شروطاً أخرى تعسفية كما فعلت الحكومة بمشروع القانون محل البحث.

لهذا نجد لزاماً علينا التوصية بإعادة المشروع للحكومة الحالية لتعيد النظر به بعد عقد اجتماع موسع مع مفوضية حقوق الانسان العراقية والمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الانسان وتحت مظلة الأمم المتحدة، بوجود ممثل الأمين العام في العراق ومجلس حقوق الانسان التابع للمنظمة الاممية، ونرى ضرورة الالتفات إلى نقاط معينة على رأسها:-

1- اتاحة حرية التظاهر للجميع في كل زمان ومكان ولأغراض تنظيمية تعطي اللجنة المنظمة علم للأجهزة الأمنية المختصة لتوفير الحماية الأمنية اللازمة للمظاهرة ولأخذ الاحتياطات الضرورية لمنع تعارض وتقاطع المظاهرة مع حركة المواطنين الآخرين والمركبات وغيرها وللحيلولة دون تعطيل دوائر الدولة عن مهامها وواجباتها.

2- ضرورة النص على أن تكون المظاهرات سلمية خالية من أعمال العنف أو التخريب للأموال العامة أو الخاصة أو رفع الشعارات التي تثير الفتن الطائفية أو العرقية أو غيرها، وفي حالة مخالفة ذلك على السلطات الأمنية الاتصال مباشرة باللجنة المنظمة لإنهاء ذلك وأن اقتضى الأمر التدخل فيجب مراعاة التدخل السلمي وبالوسائل المدنية.

3- ضرورة إيراد نص يلزم سلطات الحكومة الاتحادية ووزاراتها المختلفة وحكومات الأقاليم والمحافظات بتشكيل فرق تفاوضية بالسرعة القصوى والاجتماع مع ممثلي التظاهرة واستلام مطالبهم والعمل الجاد على تلبيتها.

4- إلزام ممثلية مجلس النواب في المحافظات كافة على أن تستلم مطالب المتظاهرين وتوصلها إلى رئاسة المجلس بالسرعة الممكنة.

5- ضرورة النص صراحة على أنه في حالة وقوع أعمال عنف أو تخريب أثناء التظاهرة أو بسببها لاسيما للأموال والممتلكات الخاصة فعلى السلطات المختصة العمل على تشخيص المتسببين وتحميلهم تبعة ذلك، وفي حالة عدم معرفتهم تتحمل الدولة دفع التعويضات اللازمة.

6- ضرورة النص على أنه في حالة تجاوز الأجهزة الأمنية للوسائل السلمية في تفريق المتظاهرين يعد ذلك سبباً لمساءلة أفرادها ضباطاً ومراتب وفق القانون.

7- ضرورة النص صراحة على أن من حق الموظفين في دوائر الدولة التظاهر السلمي شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى توقف العمل في الدائرة بشكل كلي ما يعرض حياة وأمن الناس والمجتمع للخطر.

...................................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق