q

مفهومان قد يبدو للبعض أنهما مترابطان، أو شكلان لمضمون واحد، لكنه في نظرة أخرى أكثر موضوعية، هما مفهومان منفصلان او مضمونان مختلفان لشكل يبدو في صيغته اللفظية متقاربا؛ مما يسهّل الدمج بينهما.

وهو دمج مارسته أفكار وتصورات عنصرية وشوفينية في الثقافة العربية من أجل استباحة حقوق الاقليات والطوائف في عيشها، ومنعها من ممارسة حقها في الانتماء الى هوية بعينها، وهو انتماء صنعته ظروف تأريخية واجتماعية، وكذلك الحجر على كل ممارستها الثقافية الخاصة وتغييب رموز هذه الثقافة وشاراتها وشعاراتها وطقوسها ؛ بذريعة اختراقها أو طروئها على تأريخ وتراث الأمة القومي، أو بذريعة أنها طارئة على الاسلام، وأنها من بدع أهل الزيغ والضلال، وهو مصطلح شائع في اتجاهات السلفية والتكفيرية، وهو ما يفسر هذا التواطؤ والتشابه بين أفكار وممارسات قومية وعنصرية واتجاهات سلفية وتكفيرية.

وقد بدا هذا واضحا في تواطؤ بقايا البعث بقيادة الشوفيني عزة الدوري والطريقة النقشبندية من جهة، وتنظيمات وسلوكيات داعش والقاعدة من جهة أخرى، حيث ينهض لدى الفكر القوموي بإدعاءات الأصالة وانتماءات التراث، ولدى الفكر السلفي ينهض إدعاء الالتزام بعقيدة السلف، وعنها ينتج مفهوم البدعة مثلما ينتج عن الفكر القوموي مفهوم الشعوبية ووصمة الطائفية للآخر المختلف.

ووفق مقولة الدمج بين مفهوم الطائفة والطائفية التي استند اليها نظام البعث في أيام حكمه، فانه كان يلجأ الى منع سياسي حيث لم تتوفر له قدرة على منع قانوني تجاه الطوائف والاقليات في العراق، بل يشمل المنع أحيانا حتى الافصاح أو الاعلان عن هويات أقليات بعينها، كما فعل مع الأقلية الأيزيدية ومحاولته تعريب هذه الاقلية. وهناك أقليات أخرى كانت تعرضت أيضا الى محاولات التعريب-مثال التركمان- بينما كانت تسعى هذه الأقليات الى التمسك بجذرها الاجتماعي وانتمائها القومي، وهو حق كان يُتهم أصحابه بالطائفية العميلة لاسيما أن كل أقليات العراق مثلما هي الأغلبيات فيه يتداخل في هوياتها البعد الديني او المذهبي والأصل الأثني ـ العرقي. وهذا التداخل بصفات ثقافية وبيئية تتصل بالجماعة العرقية وتشكل هويتها الخاصة وهو المعنى الأثني فيها.

فالطائفة في تصنيف مفهومها تنتمي أنثروبولوجياً الى المفهوم الأثني حين يتداخل الشرط الثقافي في هوية جماعية عرقية محددة تتحول في واقعها الاجتماعي الى طائفة معينة. كانت سياسات البعث الشوفينية تسعى الى الغائها وصهرها في بوتقة قومية واحدة، وفي برنامج الصهر الشوفيني هذا، سعت الى إلغاء تأريخ ولغات هذه الاقليات، لأن اللغة تظل هي حاملة إرث ثقافات هذه الاقليات. فالعراق يختزن أقدم لغات العالم التي ظلت أقلياته محتفظة بها، فهناك اللغة السريانية والكلدانية والمندائية والأيزيدية، وقد حُرمت تلك الاقليات من حق استخدامها في التداول والتعليم.

وفي الحملة الإيمانية المزعومة كان يجتهد في تغييب فقه طوائف إسلامية كبيرة في العراق، وقد توهم البعض بأن فقه هذه الطوائف قد يؤدي الى التفرقة الدينية، لكنها في الحقيقة تعبر عن ثراء العلم الفقهي وتنوعات الإجتهاد الديني الذي كان عاملا مهما في تطورات الحضارة الاسلامية، لكن محاولات الإلغاء الثقافي والتغييب الفقهي المتعمدة كانت تدخل في سياسته الأيديولوجية في تغييب الهويات الفرعية المذهبية، والعرقية –الاثنية، والتي تشكل في تركيبها مفهوم الطائفة أنثروبولوجياً، وكان تبريره ينمّ عن ضيق أفق فكره الشوفيني من جهة، وعن عدم تواصله أو التزامه بالأعراف والقوانين الدولية فيما يتعلق بحق الاقليات والطوائف في التعبير عن ذاتها والاعتراف بهوياتها من جهة أخرى، ومن ثَم ممارسة شعائرها وطقوسها، وهي في أغلبها طقوس فلكلورية وثقافية تؤكد من خلالها هذه الهويات على تواصلها الاجتماعي والتاريخي وتخلو من كل تضادات أو سلوكيات عدوانية وهو حق ضمنته شرعة حقوق الانسان الدولية.

لقد كان تبرير نظام البعث إنّ منحه هذه الحقوق واعترافه بالهويات الفرعية والتي "هي بالمناسبة ليست هبة منه "انما تؤدي في تبريره الى اختراق الطائفية في صفوف المجتمع وتحوله من مجتمع واحد الى مجتمع متعدد. وعلى الرغم من أن طبيعة المجتمع العراقي هي تعددية، وأنه مجتمع مركب، إلا أن نظام البعث وفكره القوموي معاد لمفهوم التعددية الذي هو مفهوم ديمقراطي بامتياز. إنه يشكك في مفهوم التعددية ويحيله الى معنى التمزق وارتباك النسيج الوطني، ذلك النسيج الذي تشكل التعددية لحمته، وتجد الطائفة ذات البنية المركبة في المجتمع العراقي مديات أوسع في حقها وفي عيشها فضاءات التعددية، بل إن التعددية تشكل حصانة إجتماعية وسياسية أمام حالات التمزق في المجتمع والدولة.

وقد اثبتت تجربة البعث في حكم العراق أن قمعه حقوق الطوائف والأقليات، هي التي أدت إلى تمزق المجتمع والدولة في العراق، بعد أن قاده الوهم الى مقولة (القوة بالوحدة) وهي مقولة صحيحة ولكنها ليست الوحدة المفروضة بالقوة، وقسر الهويات المذهبية والعرقية بهوية لا تنبعث من خلال مفهوم التعددية والتأسيس على انها هوية مركبة. لقد الغى نظام البعث تركيبة الهوية العراقية في تجربته البائسة في الحكم.

إنه بؤس ينتج عن هذا الدمج غير البريء بين مفهوم الطائفة ومصطلح الطائفية الذي أنتجه إلغاء مفهوم التعددية أو اقصاؤه، ولم يستطع هذا الفكر المتطرف سواء منه القومي أو الديني من التفريق بين مضمون كلا المفهومين رغم التقارب اللفظي شكلا بينهما.

فالطائفة: هو ذلك المفهوم الذي ينتمي الى ذلك المعنى الاثني -الانثروبولوجي بما يشكله من خصائص ثقافية خاصة بجماعة عرقية، وهو امتداد تأريخي واجتماعي قادر على تشكيل هوية فرعية تكفل شرعة حقوق الانسان الدولية والنظم الديمقراطية حق العيش لها والوجود.

اما الطائفية: فإنها ذلك النهج الذي يبرر استغلال الوضع الخاص بالطائفة استغلالا سياسيا واستثمار حجمها الاجتماعي والاقتصادي من أجل تحقيق هدف سياسي يكون على رأس قائمته إمساك غير شرعي بالسلطة.

اضف تعليق